فيما لا يزال "العهد الجديد" ينتظر ولادة حكومته الأولى ليتسنّى له الانطلاق بشكلٍ عملي، جاءت "الاندفاعة السورية" تجاهه خلال الساعات الثماني والأربعين الماضية لتفرض نفسها على "أجندته"، من الكلام اللبناني الطابع الذي صدر عن الرئيس السوري بشار الأسد حول "انتصار" لبنان وسوريا، وصولاً إلى "زيارة التهنئة" التي قام بها مفتي سوريا الشيخ أحمد بدر الدين حسون إلى قصر بعبدا.
وإذا كان كثيرون، ومن بينهم "حلفاء مفترضون" للعهد الجديد بل "عرّابون له"، سارعوا لشنّ حملة منظّمة على الحدثين المتزامنين، فإنّ السؤال الجِدّي الذي يطرح نفسه هو، هل أربِك العهد الجديد فعلاً؟ ولماذا تسعى القيادة السورية لإحراج الرئيس الجديد طالما أنّها تصنّفه "حليفًا"؟
إحراجٌ متعمَّد؟
بدايةً، لا شكّ أنّ معظم من كانوا منخرطين في ما يسمّى بقوى "14 آذار" عادوا ليجدوا أنفسهم على "قلب رجلٍ واحِد" في مقاربة زيارة المفتي حسون ومواقف الرئيس الأسد، للمرّة الأولى منذ "الموت السريري" لهذه القوى، وكأنّ الموقف من القضايا الإقليمية والخارجية، وعلى رأسها الأزمة السورية، باتت القاسم المشترك الوحيد الذي يمكنه أن يجمع، ولو بالحدّ الأدنى، من حملوا يومًا شعار "لبنان أولاً".
هكذا، كان بالإمكان رصد تقاربٍ ندر مثيله منذ فترةٍ طويلة بين "القوات اللبنانية" مثلاً، بشخص رئيسها سمير جعجع، وحلفائه القدامى من مسيحيي الرابع عشر من آذار، ممّن فرّق بينهم تبنّي "الحكيم" لترشيح العماد عون للرئاسة، على غرار وزير الاتصالات بطرس حرب، أو النائب السابق فارس سعيد، على سبيل المثال لا الحصر. وبالتوازي، لوحظ تقاربٌ في الموقف أيضاً بين وزير العدل المستقيل اللواء أشرف ريفي و"تيار المستقبل"، الذي لم يُخفِ امتعاضه من الزيارة، علمًا أنّ رئيسه سعد الحريري رفض استقبال المفتي حسون، ومثله فعل مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان.
عمومًا، فإنّ مواقف هؤلاء عبّرت عن رأي شريحة واسعة من الشعب اللبناني ممّن اعتبروا أنّ المواقف السورية جاءت لتحرج الرئيس ميشال عون وتضعه في محورٍ إقليمي محدّد بمواجهة محورٍ آخر، في وقتٍ يعمل جاهدًا منذ وصوله إلى بعبدا على الانفتاح على الجميع دون استثناء، وتحييد لبنان الرسمي عن صراع المحاور الذي يضرّه أكثر ممّا ينفعه، وهو كان حريصًا على توجيه الرسائل الودية والإيجابية للسعوديين مثلاً كما الإيرانيين والسوريين وغيرهم، وما "حذف" بعض العبارات التي وردت على لسان حسون سوى دليل واضح على "الإرباك" الذي وجدت رئاسة الجمهورية نفسها فيه.
ولعلّ التوقيت الذي أتت به زيارة حسون ومواقف الأسد جاء ليزيد "الطين بلة"، بالنسبة لأصحاب هذا الرأي، وذلك لارتباطه بمجريات معركة حلب، التي يروّج النظام وحلفاؤه أنّها انتهت عمليًا لصالحهم، فيما يشكو خصومهم من خذلان المجتمع الدولي لهم، وبالتالي يرى هؤلاء أنّ هناك من أراد الإيحاء بأنّ لبنان شريكٌ بهذا "الانتصار"، وما قول الرئيس السوري أنّ لبنان لا يستطيع الاستمرار بتطبيق سياسة "النأي بالنفس"، التي اعتمدها طيلة الفترة السابقة، سوى الدليل الأبرز على وجود مثل هذه النوايا.
حملة غير بريئة
ولكن، وأبعد من وجهة النظر الأولى، لا تبدو بالنسبة لآخرين الحملة التي شُنّت على رئيس الجمهورية على خلفية استقباله لحسون بريئة، وذلك لكونها أهملت معطيات ثابتة وموضوعية، يفترض أن يتمّ التعاطي بموجبها مع قضايا من هذا النوع.
وفي هذا السياق، يمكن الالتفات إلى أنّ المواقف التي أطلقها الرئيس السوري بشار الأسد لا تلزم الرئيس ميشال عون بشيء، خصوصًا أنّ من حق الرجل أن يعتبر وصول "الجنرال" إلى رئاسة الجمهورية "انتصاراً لسوريا" إذا كان يراه كذلك، تمامًا كما أنّ من حق السعودية مثلاً أن تعتبر نفسها "منتصرة" أيضاً بانتخاب عون بعد تبنيه من قبل رجلها في لبنان، أي سعد الحريري، علمًا أنّ العماد عون يحرص على إسماع كلّ من يعنيه الأمر أنّه لم يصل إلى الرئاسة إلا وفق صيغة "لا غالب ولا مغلوب"، وهو، وإن لم يتخلّ عن مواقفه الاستراتيجية المعروفة، إلا أنّه مصرٌ على الانفتاح على جميع الدول، ولا سيما منها الصديقة، سواء انتمت لهذا المحور أو ذاك.
أما زيارة المفتي حسون إلى قصر بعبدا، فالواضح أنّها تندرج في سياق سياسة رئاسة الجمهورية بفتح أبواب بعبدا أمام الجميع وعدم إقفالها بوجه أحد، بدليل أنّ هذه الزيارة لم تكن الأولى لضيفٍ خارجي، وقد سبق للرئيس عون أن استقبل موفدين من السعودية وقطر ومصر، كما من إيران، وحتى من سوريا، التي كان موفدها الرئاسي من أوائل المهنّئين بانتخاب عون رئيسًا، ولم تثر الزوبعة التي أثيرت على خلفية زيارة حسون، وهو ما ضاعف من الاستغراب والاستهجان.
ويبقى الأهمّ من كلّ ما سبق أنّ معظم الساخطين على استقبال الرئيس اللبناني لمفتي سوريا هم ممّن رحّبوا بخطاب القسم وطالبوا باعتماده كبيان وزاري، في وقت كان واضحاً بضرورة تنظيم العلاقة مع سوريا، لا اعتبارها عدواً للبنان، علمًا أنّ التعاون مع السلطات السورية لحلّ الكثير من القضايا المشتركة سيكون أمرًا إلزاميًا لا اختياريًا في المرحلة المقبلة، خصوصًا في مقاربة إشكالية اللاجئين السوريين التي لا يخفى على أحد أنّ رئيس الجمهورية يعتبرها من "أولويات" العهد التي لا يمكن الاستهانة بها، بل إنّ الأمر قد يتطلب أن يذهب بنفسه إلى سوريا إذا ما اقتضت الضرورة ذلك، وهو ما يذكر الجميع أنّ رئيس "تيار المستقبل" سعد الحريري نفسه قد فعله عندما كان رئيسًا للحكومة، رغم أنّه كان يتهم النظام السوري ليس فقط بقتل أبرياء من المدنيين، بل باغتيال والده رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري.
"بيّ الكل"...
عندما استقبل رئيس الجمهورية الموفد السعودي الأمير خالد الفيصل في قصر بعبدا، قيل أنّ الكثير من قوى "8 آذار" امتعضت، بل ذهبت لحدّ التخوّف من "انقلابٍ سياسي" يمكن أن يقدم عليه الرجل. وعندما استقبل الرئيس عون مفتي الجمهورية السورية، امتعض "الآذاريون القدامى"، وخرج من يقول أنّ الرئيس أحرِج وأربِك، وما إلى ذلك.
ولكنّ كلّ هؤلاء نسوا أو لعلّهم تناسوا أنّ من ارتضى أن يكون شعاره "بيّ الكل" لا يمكنه إلا أن يكون أبًا للجميع، وبالتالي يستقبل الجميع من دون استثناء، وما يربكه لن يكون سوى "الضجّة المفتعلة" التي يثيرها البعض لغير صالح العهد الجديد بطبيعة الحال، ولو ادّعوا العكس!