العرب والمجتمع الإستهلاكي، أو بالأصحّ، العرب مجتمع إستهلاكي- "إهلاكي"، مقولة زاخرة بإشكاليّات تطاول الكيان العربي وتحقّره ظلماً بشكلٍ عام. وهي تدفعنا لإعادة النظر، بصورة نقدية، بمجمل القيم والمفاهيم والنظم السائدة، وكذلك الأسس الحضارية والإيديولوجية التي"يستمدّ" منها هذا المجتمع تطوّره وموقعه وديمومته بين الأمم.
إنّ حوار الشرق والغرب، والشمال والجنوب، كما الحوار الإسلامي المسيحي، والإنتاج والإستهلاك، كلّها أشكالأقنعةٍ تتبدّل سلماً وحروباً لوجهٍ واحد تقوم عليه معضلات الحوار الحضاري في بذرتها الأصغر أي العلاقة بين الواحد والآخر، مهما كان حجم تلك البذرة، فرداً، جماعةً، دولةً أو أمّة. هذا حوار قد تستبدّ به النتائج المتناقضة التي تجمع التعارف والتواصل والإختلاط والتنابذ والتقسيم والإلغاء في حدودٍ متفاوتة لكنها قد تجتمع في الغضب الى حدود التوحّش.
كان لا يمكن منذ الأساس، نسيان موقع الإعلام المتخيّل أو التقني بعد تحوّله من التواصل المباشر الى أجهزة الإتصال التي لا حدود لبراعتها وإبداعاتها وأجيالها في إختصار الرقعة الأرضيّة، بحيث بات الفصل بين البشر في منتجاتهم وإستهلاكهم أمراً يشابه المستحيل في ضبط الحاجات والرغبات والطموحات وإشباعها بالسلطات المتعدّدة. ومن الموضوعي القول بأنّ الفكرة- النظرية- العقيدة والأديان، لعبت وتلعب دورها سلباً و"إيجابا"، وعلى مدى العصور، في ترابط متين من التلاقي والتعارف والتبادل المؤقّت في أساليب العيش والحضارة. لكن كان لا يمكن أيضاً، نسيان أنّ الصناعات والتكنولوجيات وتقنيات المعرفة والتواصل المتدفّقة قد نبشت الأرض والبحار والفضاء وعقول البشر، في تقاطعات وتداخلات يظلّلها الوجه المظلم الثقيل والقبيح لما يعرف بالمصلحة والربح والإستفادة طبقياً وقومياً ودولياً.
وإذا كان الإبداع- الإنتاج والإستهلاك-التسخير يشكّلان زاويتي المثلّث الظاهري الذي يقف عليه المجتمع البشري، فإنّ الإختصار-الإعلام-التواصل هو الزاوية الثالثة التي تجعله متكاملاً، لكنّها الحلقة الباهرة في مثلّثٍ غير متساوي الأضلاع، وتجعل من تلك الزاوية المضيئة موطن الغموض في الوقت نفسه بما يبعدنا عن التفكير الإنسانيلأغراض الإنتاج والربح والقوة.
يمكننا بشكلٍ أوضح، أن نحصر جهود البشريّة ومنجزاتها في دائرتين لا تعرفان التوقّف هما دائرة الإنتاج ودائرة الإستهلاك.
ويظهر الغموض في التمييز الحضاري بين الأمم لأمرين أساسيين:
1- إستمرارية النشاط الإبداعي، تقوى وتنشط، أو تتراجع وتخفّ وفقاً لحركة الدائرة الثانية، وبحاجةٍ، تحقيقاً لتفوّقها الحضاري نسبيّاً، الى تخلّف غيرها الحضاري نسبيّاً أيضاً، للمحافظة على بقائها وقوّتها أي للمحافظة على تميّزها وتفوّقها عند عقد المقارنات بين مقدرة الإنسان والكائنات الأخرى حيث تضيع المعايير القانونية بين مفهومي السلطة والسيادة.
2- إستمراريّة التداور في الأنشطة الإبداعيّة-الإنتاجيّة من فردٍ الى آخر، ومن أمّةٍ الى أخرى ومن كوكبٍ الى آخر كما هو حاصل اليوم. وبهذا المعنى، نعتبر النشاط والإجتهاد البشري تابعاً لفكرة قيام الحضارات ونموها وإزدهارها وإندثارها. هذه مسألة جوهرية، قد يصعب الإحاطة بها بشكلٍ عملي، إلاّ إذا نظرنا، الى عمر الإنسان وتجليّاته وإبتكاراته كمن ينظر الى عمر فراشة. والسبب في هذه النظرة الى عمر الإنسان أنّ التاريخ المكتوب الأوّل بدأ منذ الألف الرابع قبل الميلاد، وما سبقه من تقديرات لا نعرف عنه الكثير.
نضيف الى هذين الأمرين، تجليّات سلطات الإنسان المبدع الخفيّة وصورته الطامحة الى مصاف لا يشبع من الإستعلاء. يعمّق هذا البحث غموض مساحة التقاطع بين دائرتي النشاط المذكورتين. ولو ذهبنا الى أعمق من ذلك، لقلنا أنّ الخالق بتمثّلاته المتعدّدة وأشكال الخوف الكثيرة المتشكّلة لدى الإنسان عنه تجعله هو المنبع الطبيعي والإعلامي النبع، بينما الإنسان هو الخاضع المستهلِك والمستهلَك- بمعنى النهرالمتدفّق أبداً من النبع.
ونلحظ في داخل الدائرتين، وحول شكلي النشاط "الإبداعي" أن رسلاً دمغوا الحضور البشري بما تركوه، كما قامت حركات و"ثورات" وحضارات ، وإنتشرت فلسفات وأفكار ومدارس، وما عاد من الممكن حصر المصطلحات التي غلّفت المجتمع البشري وخصوصاً المعاصر منه، مثال التنمية والتبعيّة والتخلّف والتقدّم والجدّة والإبتكار، والخلق والإبداع، والحداثة والتحديث والمعاصرة بما فصّل أقيسة العالم والشعوب الى أوّلٍ وثانٍ وثالث ورابع..الخ. ويعود التقسيم الى مرحلةٍ من الفوضى والتداخلات، سقط عبرها الكثير من مساحات التمايز بين الحضارات. كان الهمّ الديني الأساسي وصل الأرض بالسماء لكنّ السماء تبقى بمعانيها الرمزية هي المنتج الأكبر والأرض هي المتلقّي أو المستهلك الأكبر، وكان الهمّ الفلسفي من سقراط وأرسطو وإفلاطون الى هيغل وماركس ونيتشه وفرويد والى مركوز وهيوم وكانت وفوكو وإبن رشد وإبن خلدون...الى أسماء دمغت العقل العالمي بحضورها ولا يتّسع المجال لذكرها فقط ، عوالم من التباين والإختلاف والتكامل حول الإبداع والتلقّي يفصل ما بين السماء والأرض من ناحية ويجمعهما من ناحيةٍ ثانية. وتقتضي إشكاليات العلاقة بين الإنتاج والإستهلاك التوسّع في إستيعاب مفهوم الحضارة كونه مدلول يتموّج بين علم المجتمعات واللاهوت مروراً بالفلسفة، وخصوصاً لفهم الحضارات في تعدّدها ووحدتها وتلاقحها عند الإستغراق في ما كتب عن بلاد ما بين النهرين ومصر واليونان التي توضع دولها المعاصرة وتراثها وكنوزها ومخطوطاتها وشعوبها في موقع السقوط والفشل اليوم، وصولاً الى فهم فلسفة الحضارة التقنية والمعلوماتية المعاصرة التي تبلغ أوج قوّتها ونهضتها في الألفيّة الثالثة نحو ما يشبه الفراغ.
يبقى البشر أسرى تماهياتضحلةفي إدراك الحقائق الكبرى المطلقة أو شبه المطلقة لفهم العلاقة بين الإنسان المستهلك الهالك والله المبدع الباقي والمهلك. وعلى هذا النحو، يستمرّ الزمان مقياساً أبدياً للحركة في جمود الأشياء، ويلعب الإنسان بقشرة دماغه بحثاً عن تفسيراتٍ أو تعليلات شتّى ومواقف كثيرة تطرح حضارة الإنسان وكيفية تطورها وتفاعلها وتناسلها الى حضاراتٍ مختلفة متفاعلة متحاورة أو متصارعة بالدماء والحروب.