هو زمنُ المراعاة، لا بل هو زمنُ الاختباء وراء الأصابع رغم أن بعض الصور لا تحتاج الى من يفسّرها ومنها المعركة السورية وتداعياتها على لبنان. عزّ على بعض السياسيين اللبنانيين قول الرئيس السوري بشار الأسد إن لبنان لا يمكنه الاستمرار في تبني سياسة النأي بالنفس، ولم تعزّ عليهم حقيقة أن لبنان في غمرة المعركة السورية وتداعياتها ولا علاقة له بالنأي بالنفس لا من قريب ولا من بعيد.
ماذا كان المعترضون ينتظرون بعد من تداعياتٍ وآثار للتسليم بأن لبنان غارقٌ في همومه وهموم جارته المنكوبة على السواء؟ ألا يكفي مليونا نازح وأكثر يعجز لبنان عن إطعامهم وإيوائهم لتهاوي “مسرحيّة” النأي بالنفس؟ ألا يكفي استئصال خلايا إرهابية يومًا بعد آخر منبعُها سورية لنعي النأي بالنفس؟ ألا يكفي قتال حزب الله الى جانب الجيش السوري في الميادين لتحرير سورية لرمي “ترّهة” النأي بالنفس في أقرب مستوعب قمامة وما أكثرها هذا إن وُجِد بعدُ مكانٌ فيها؟
أزمة “نظريّة”...
يبدو جليًا أن الأزمة “النظريّة” تفوق نظيرتها العملانية، بحيث يعترض معترضٌ على فكرةٍ مكرّسة في عمق الوطن لا بل “مشلّشة” في مؤسساته ونفوس شعبه وشوارع ناسه. في الأمس قامت القيامة ولم تقعد بعد. لم يبتلع مناهضو النظام السوري في لبنان حدثين مترابطين استراتيجيًا وزمنيًا: أولهما زيارة مفتي سورية الشيخ أحمد بدر الدين حسون الى قصر بعبدا وهو ما حمل رمزيةً كبيرةً بالنسبة الى رئيس جديدٍ في عهدٍ جديد “متصالح” مع حقيقة بقاء بشار الأسد في الحكم واندحار الإرهابيين والمعارضة. وثانيهما، موقف الأسد الناري إزاء عدم دعوة عون لزيارة سورية بسبب انشغاله في تشكيل الحكومة ودعوته الى إسقاط سياسة النأي بالنفس، المفهوم الذي ابتكرته حكومة الرئيس نجيب ميقاتي غداة اشتعال الأزمة في سورية. حدثان يأتي ارتباطُهما الأكبر والأكثر تعبيرًا مع تبدُّل معطياتٍ جمّة ومؤثّرة في مسار المعركة السورية في أعقاب مضي الجيش السوري وحلفائه في حسم معركة حلب واستعادة شرقها، تمهيدًا لتحرير سورية بالكامل.
تحليل استباقي
يُمسي الربط بين تحرير حلب وانعكاساته على لبنان أشبه بتحليلٍ استباقي للتطورات الميدانية، رغم أن هذه الإشكالية لم تسلَم من بعض الأقلام والأفواه التي أمعنت في سرد تداعياتٍ منها الواقعي ذو الصبغة الاستباقية ومنها السوريالي. أيًا تكن درجة حيوية الصلة العضوية بين الساحتين اللبنانية والسورية ركونًا الى الماجريات في كلتيهما، يبقى الأكيد أن زيارة حسون وكلام الأسد لم يمرّا على خير ما يُرام أقله حتى اليوم وإن كانت الأيام ستمحو آثارَهما لا بل ستكرّسهما مشهديةً مألوفة في عهدين جديدين يُفتَتح أولهما في لبنان ويأتي ثانيهما بعد فترة في سورية محرّرة تبحث عن إعادة إعمار نفسها ولملمة خرابها. الى حينها، محرجًا بدا رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع في الأيام القليلة الفائتة ولكنه متصالحٌ مع مواقفه وذاته. فرجل معراب الذي احترَم موقع رئاسة الجمهورية وأبى التعليق على زيارة المفتي حسون الى القصر باعتبار أن رئيس الجمهورية للجميع وأن من واجبه استقبال أيّ زائر، لم يستطع تجاوز كلام الأسد، فكان ردُّه متأرجحًا بين الإحراج والمهادنة للرئيس عون بقوله: “ من مصلحة الأسد بالذات، أن يستمر لبنان بسياسة النأي بالنفس لأن “لبنان إن حكى” لا يمكن أن يكون إلا ضده”. ردٌّ لا يُلزم عون على ما يؤكد عارفون ومقرّبون بل ينمّ عن موقف فريقٍ لبناني. ذاك الفريق لا يمكن أن يستثني النائب وليد جنبلاط الذي غمز هو الآخر من قناة انتقاد تداعيات انتصار المنظومة السورية الإيرانية في حلب على لبنان. وكما جنبلاط غرّد وزير العدل اللواء أشرف ريفي:”في وقتٍ تدمر فيه حلب على رؤوس أهلها يستقبل مفتي النظام السوري في بعبدا، هذه إهانة للبنانيين واستخفاف بآلام السوريين الذين يقتلون من 6 سنوات".
أين النأي في كلّ هذا؟
ليست القصّة في انتقاد زيارة حسون الى بعبدا وبكركي وفي موقف الأسد فحسب، بل تبدو المعضلة منطويةً على مفهوم ابتكره اللبنانيون أنفسهم وما طبّقوه سوى في بعض المواقف في محافل دولية حمل بعضُها من اللُّبس ما كلّف وزير الخارجية انتقاداتٍ جمة. هو بيتُ القصيد الذي استدعى موقفًا من الأسد وردودًا من بعض الأطراف المحليين. ويتساءل مصدرٌ نيابيٌّ مؤيدٍ للنظام السوري عبر “البلد” عن “سرّ الجهبذيّة التي يتسلّح بها بعض المتفوّهين المتمسكين بسياسة النأي بالنفس فيما هم خيرُ العارفين بأن هذا المفهوم سقط منذ زمنٍ طويل”. ويفصّل المصدر في معرض حديثه عن “لاجدوى” نظرية النأي بالنفس كيف أن عوامل عدّة تدحض تلك “الشكليات”: أولًا، النازحون الذين يُغرقون البلاد ويعيش لبنان على وعود المساعدات الواهمة التي تُخصّص لهم أمميًا. ثانيًا، الخلايا الإرهابية التي تعشش في مناطق عدّة من لبنان والتي يعمل الجيش والقوى الأمنية على استئصالها وقد أفلحا في ذلك في غير مكان وزمان. ثالثًا، المواقف الحادّة سواء كانت مؤيدة أم مناهضة للنظام السوري وما يشهده الميدان من معارك يتقدّم فيها الجيش غالبًا لا سيّما حلب أخيرًا. فأين النأي في كلّ ذلك؟”. ويختم المصدر ساخرًا من منتقدي زيارة حسون وموقف الأسد بالقول: “الإمبريالية اعترفت بالأسد وفي كم واحد عنّا بعدو مصرّ إنو منو شرعي".
وراء الأصابع...
إذًا، أمعنت زيارة المفتي حسون الى القصر والصرح البطريركي في إجهاض مفهوم “النأي بالنفس” المُجهَض أصلًا، لا بل الذي لم يولد في الأساس. إجهاضٌ لا يردع بعض المتعلقين بحبالٍ وهمية من التخفي وراء أصابعهم بالتمسّك بمفهومٍ نظريٍّ ابتدعه أصحابُه ذات يوم لتسويغ مواقف حكومةٍ تضمّ كلّ الوجوه المؤيدة والمناوئة لحكم الأسد، قبل أن يطيحَه أوّل تأييد أو اعتراضٍ على أوّل نازحٍ وطأت قدماه أرض لبنان... ولمّا يزل هنا. هي واقعية الميدان السوري تعرّي النأي اللبناني مجدّدًا ومجددًا!