صفعة مدوّية وجّهتها دمشق وحلفاؤها من حلب إلى الولايات المتحدة والغرب وممالك الخليج.. كان يكفي مشهد الانهيارات المتسارعة للمجاميع المسلّحة في الأحياء الشرقية المحصَّنة أمام زحف الجيش السوري ومقاتلي حزب الله، حتى يصاب كل الحلف المعادي بالذهول والصدمة، لما يعنيه هذا النصر الاستراتيجي للرئيس السوري بشار الأسد على المنطقة بأسرها.. إلا أن دمشق آثرت أن تُلحق نصرها في أم المعارك برسالتين قاسيتين إلى إدارة باراك أوباما الموشكة على الرحيل، عبرتا على متن معارك تطهير المدينة: الردّ على السؤال عن مصير العشرات من الضباط الأميركيين والفرنسيين والبريطانيين والأتراك والسعوديين الذين كانوا يديرون عمليات المسلحين في حلب، برسالة تفيد أن المفاوضات والمساعي الأميركية مع موسكو لتأمين إخراج هؤلاء من المدينة فشلت، وفق تأكيد مصدر عسكري روسي لصحيفة "ترود" الروسية، والثانية التي لم تستطع أجهزة الاستخبارات الأميركية تحمّلها، حسب توصيف المحلل السياسي الأميركي توم اندرسون، تمثّلت بعرض الفضائيات السورية لمستودعات مكدّسة بالأسلحة والصواريخ في أحد أحياء المدينة القديمة تركها المسلحون وراءهم، والتي سبق أن اشتراها البنتاغون من بلغاريا وأمّنها عبر موانئ تركية وأردنية للمجاميع المسلّحة في حلب، وقد أطبق عليها الجيش السوري.. قرابة مليوني قذيفة و4 آلاف صاروخ "غراد" كانت تكفي "جيش الفتح" لمواصلة القتال في حلب لعامين آخرين، وفق ما نقلت قناة "نوفا تي في" البلغارية عن خبراء عسكريين، أشاروا إلى أن شراسة مسلحي "جيش الفتح" القتالية ذابت أمام زحف القوات السورية المهاجمة ومقاتلي حزب الله وتكتيكاتهم "التي أذهلت أجهزة الاستخبارات الغربية والعالمية".
وفي حمأة العمليات العسكرية المتسارعة للجيش السوري وحلفائه في تطهير الأحياء الشرقية لحلب، ضرب تنظيم "داعش" في الوسط السوري عبر اجتياح مدينة تدمر المحررة عصر الجمعة الماضي، تزامناً مع الإعلان التركي عن وصول قوات "درع الفرات" إلى تخوم مدينة الباب، رغم التحذيرات السورية المتكررة لأنقرة من مغبّة الإقدام على هذه الخطوة التي لن تسكت عنها دمشق. هجوم لم يكن بالطبع محض صدفة في توقيته، ويدلل على دعم لوجستي واستخباري إقليمي كبير أُعطي للتنظيم لإنجاح اجتياحه لتدمر، في عز الضربات القاسية التي تُلحَق بقادته ومقاتليه في معارك الموصل العراقية، سيما أن تعداد الهجوم وصل إلى عتبة الخمسة آلاف مقاتل عبروا من الرقة ودير الزور بآلياتهم وأسلحتهم الثقيلة تحت أعين الأقمار الصناعية الأميركية.
فكيف جُهِّز هذا الهجوم؟ ومن هي الدول التي نسّقت ودعمت "داعش" في اجتياح تدمر؟
ما إن بدأت الانهيارات المتسارعة للمجاميع المسلحة في أحياء شرقي حلب، حتى بدأ العمل سريعاً للرد على النصر الاستراتيجي الذي لاحت تباشيره في أفق المدينة.. تدرك أجهزة الاستخبارات الأميركية والغربية أن تدعيم الحشود العسكرية الضخمة للجيش السوري وحلفائه في جبهات حلب، أتى على حساب بعض الجبهات الأخرى، خصوصاً في ريف حمص، وتدرك الرمزية الكبيرة التي تمثّلها مدينة تدمر بالنسبة لموسكو، التي لعبت دوراً استثنائياً في تحرير المدينة منذ شهور خلت، فلم تبخل فيه بإنزال قوات خاصة روسية على الأرض للمشاركة في عملية تحريرها.. موقع "غلوبال ريسرتش" الكندي، الذي لفت إلى أن إدارة أوباما والغرب الموالي له، كما السعودية وتركيا وقطر، أصيبوا بحالة ذعر حقيقية مع انهيار الإرهابيين في حلب، كشف عن اجتماعات أمنية ضمّت ضباطاً في الاستخبارات التركية والأميركية في منطقة قرقميش التركية الحدودية، قبل أسبوعين من "غزوة" تدمر، حيث بدأ التنسيق والإعداد لحشد أعداد ضخمة من مقاتلي "داعش"، يتمّ سحبهم من الرقة ودير الزور باتجاه الوسط السوري، لتعطى إشارة انطلاق الهجوم، وسط ضباب كثيف اضطرّ المقاتلات الروسية بادئ الأمر إلى الانكفاء عن سماء المدينة، قبل أن تعاود ضرب المهاجمين باستخدام صواريخ كاليبر وتجبرهم على التراجع، إلا أن التنظيم استطاع لملمة صفوف مقاتليه والنجاح بهجومهم الثاني.. ولكن!
سريعاً تمّ الردّ على رسالة أنقرة في الباب وتدمر؛ تفجير مزدوج أعقب غزوة الأخيرة، هزّ مدينة اسطنبول التركية تزامناً مع مرور موكب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالقرب من مكان التفجير، وفق إقرار مدير الاستخبارات الخاصة التركية لصحيفة "صباح". الرسالة بدت واضحة للنظام التركي: وصلت رسالتكم، ونستطيع الرد بأقسى منها، وفي الداخل التركي.
بالتزامن، اعتبر مركز "فيريل" الألماني أن "غزوة" تدمر لن تصمد طويلاً في وجه التعزيزات العسكرية الضخمة التي باشرت القوات السورية والحليفة سريعاً باستقدامها من جبهات حلب بعد إنجاز تحريرها باتجاه محيط المدينة، لافتاً إلى أن سحب الآلاف من مقاتلي "داعش" من الرقة أعطى فرصة "ذهبية" لدمشق للانقضاض على معقل التنظيم الأكبر في سورية، متوقفاً عند مبادرة المقاتلات السورية والروسية السريعة إلى قصف مقار التنظيم هناك بشكل عنيف، في اليوم نفسه الذي اجتاح مقاتلوه تدمر، و"هذا له مؤشرات هامة تُنبئ باقتراب حملة عسكرية يبدو أن خيوطها اكتملت"، وفق إشارته.
وتؤكد المعطيات العسكرية أن تحرير حلب سيسهّل عمل القيادة السورية اللاحق بشكل كبير في تحرير ما تبقّى من جبهات، سيما أن الحشود العسكرية الضخمة التي تطلّبها نصر المدينة الاستراتيجي سيتمّ سحبها إلى تلك الجبهات. صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية اعتبرت أنه بتحرير حلب ستنتهي الحرب في سورية في غضون أشهر معدودة، وتشير إلى بدء توافد رجال أعمال عرب وأجانب إلى دمشق بحثاً عن صفقات إعادة الإعمار.. إلا أن اللافت يكمن في إشارة محرر شؤون الشرق الأوسط في صحيفة "دايلي تلغراف"، حيث أشار إلى أن الرئيس السوري بشار الأسد قد يكون بصدد إطلاق مفاجأة هامة سيُسمع دويّها بشكل خاص في تركيا و"إسرائيل".