ما بعد حلب يعيد خلط أوراق إقليمية ومحلية. أولاً، خرجت الدولة السورية من دائرة الخطر الوشيك المُهدِّد لوجودها. وباتت أكثر ارتياحاً في التعاطي مع الملفات الأخرى غير الارهاب الداهم على حدودها الشمالية حيث احتمالات التقسيم باتت قاب قوسين أو أدنى من التحقق، علماً أن التنظيمات الكرديّة لا تجاهر بذلك، تحسباً للمطرقة التركية والسندان السوري.
ثانياً، هناك الحدود الشرقية المفتوحة من البادية (وسط) الى العراق، وهنا تصبح دمشق حليفاً اساسياً في الحرب العالمية على "داعش". وبات دورها في هذا المجال أكثر قبولاً دولياً، بين حكومات كانت تعتبر أن أيام النظام باتت معدودة. حكومات سقطت توجهاتها في صناديق الاقتراع، مثلما حصل في فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا.
ثالثاً، الحدود الجنوبية التي تتشابك فيها الخطوط الإرهابية والإسرائيلية والدولية أي قوات الفصل التابعة للأمم المتحدة. وهذه المنطقة، نظراً للحساسية الخاصة لها دولياً، أي العامل الإسرائيلي، مرشحّة للهدوء، أكثر من غيرها، باستثناء خرمشات ريف درعا.
رابعاً، وهو ما يعنينا أي الشريط الممتد على طول الحدود اللبنانية من الشمال إلى الجنوب مروراً بالبقاع، والمفتوح بحذر على الجبهات السورية.
لبنان الخارج من أزمة فراغ رئاسي دام أكثر من عامين ونصف العام، لم يدخل مرحلة الاستقرار في غرفة الإنعاش، ولايزال تحت مبضع الجراح. لا بل ترتفع نسبة المخاطر التي تواجهه. انسحاب الإرهابيين بسلاحهم الخفيف من حلب يعني احتمال إعادة تموضعهم في مناطق أخرى، ليست بالضرورة جبهات قتال تقليدية. ومن السهل على الانغماسيين التسلل إلى بيئات ومناطق أخرى ليحضروا لعمليات أمنية وعسكرية (القاع، جرد بعلبك، عرسال وغيرها). وبالطبع لا تعوز "داعش" وأخواته الحنكة، ما جرى من انقضاض سريع على تدمر، يؤكد حاجة الإرهابيين وقدرتهم على نقل المعركة إلى جبهات مستحدثة لم تكن في الحسبان. والمثير للقلق لبنانياً أن إعادة احتلال تدمر تضع القلمون السوري واللبناني وعكار وصولاً إلى البحر في دائرة الاستهداف الارهابي، خصوصاً وان الامن في هذه المناطق غير ممسوك تماماً، وسهل الاختراق والتصويب منه، وعليه.
لبنان لم يخرج من دائرة الخطر بعد. ولم يرتق إلى موقع محصن بالمطلق في مواجهة التحديات الجديدة، على الرغم من توافق سياسييه المفاجئ على حلول محلية، أفضت إلى انتخاب رئيس الجمهورية والرضى بحكومة وحدة وطنية وإن كان مخاض ولادتها صعباً. إذ من السهل على لبنانيين النزوع إلى التورط في الحرب المجاورة، بحسب التجارب السابقة، إن لم يكن مباشرة فبتوريد السلاح. والأسباب المبررة لذلك متوافرة غب الطلب، من انخراط حزب الله في الحرب ضد الإرهاب، وما يقابله من انحياز معارضيه لأي مقاتل ضد النظام السوري، من أين أتى. بين هذين الحدين المتناقضين يسهل حصول خروقات امنية تبدأ بعرسال ولا تنتهي بالعرقوب جنوباً.
العهد اللبناني الجديد الذي على عاتقه حماية الحدود كما السلم الأهلي والدستور، على عاتقه ايضاً تحصين الساحة الداخلية من أي اختراق من هذا النوع. ويكون ذلك بالعودة إلى الميثاق المؤسس لبنان الذي ينص صراحة على ألا يكون لبنان "مقراً أو ممرا" لعدوان يطال أشقاءه العرب. وربما من هنا جاءت الإشارة الاستباقية للرئيس العماد ميشال عون في خطاب القسم عندما أكد على التزام لبنان ميثاق جامعة الدول العربية لاسيما المادة الثامنة منه التي تقول: "تحترم كل دولة من الدول المشتركة في الجامعة نظام الحكم القائم في دول الجامعة الأخرى، وتعتبره حقاً من حقوق تلك الدول، وتتعهد بأن لا تقوم بعمل يرمي إلى تغيير ذلك النظام فيها".
لبنان في هذا المسار ليس لوحده. يكاد يجمع المجتمع الدولي على قرار تحصين حدوده. بالأمس تلقى الرئيس عون رسالة من وزير الخارجية الأميركية جون كيري تتضمن تأكيداً أميركياً لاستمرار دعم الجيش اللبناني. والدعم هنا في مواجهة الإرهاب. وسمع المسؤولون اللبنانيون تأكيدات مماثلة من دول أوروبية ومن غيرها. وفي هذا الإطار ايضاً تأتي زيارة الرئيس عون إلى السعودية، الأولى إلى الخارج بعد انتخابه، وهدفها بث الروح في الهبات السعودية المخصصة لتسليح الجيش اللبناني.
تحييد لبنان عن الحرب على سورية، ومساهمته في الحرب على الإرهاب كما جاء في خطاب القسم "استباقياً وردعياً وتصدياً حتى القضاء عليه"، كفيلان بتعزيز الاستقرار في هذا البلد. وهذا لن يتحقق إلا بشراكة كاملة بين مكونات الحكم على اختلافها. شراكة في الرؤية بعين واحدة إلى المخاطر التي تواجهنا، وشراكة بين الأجهزة الأمنية المختلفة التي يجب أن ترتقي من المنافسة الضارة في ما بينها إلى التعاون الكامل.
لبنان بعد حلب مُشرَع على مخاطر لا يحسد عليها، لكن مواجهتها والوقاية منها ممكنان.