تتأمَّل الكنيسة، في هذا الاسبوع المبارك، بنسب يسوع المسيح والسلسلة البشريَّة التي تحدّر منها وانطلقت من آدم ووصلت إلى مريم العذراء، بحسب إنجيل لوقا، والتي بدأت مع ابراهيم ووصلت إلى يوسف رجل مريم التي ولد منها المسيح، بحسب انجيل متَّى )1، 1-17) ونقف خاصة عند ما يلي:
1- إنسانيَّة يسوع المماثلة لإنسانيَّة كلِّ واحد منَّا
قامت بدع في القرنين الأوَّلين للمسيحيَّة، ينكر بعضها على المسيح إنسانيَّته الكاملة ويعتبر أنَّه إله من إله ونورمن نور فحسب، ولا علاقة له بالإنسانيَّة إلاَّ بالشكل الخارجي، كأنَّه صورة إنسان تتحرَّك وتنطق لكنَّه ليس إنسانًا يحمل لحمًا وعظامًا وإرادة ونفسًا وما شابه من أمور الإنسان التي تميّزه عن الأرواح الملائكيَّة. حجَّة هذا البعض أنَّ الشبيه لا يعطي إلا الشبيه، بالتالي الله يعطي إلهًا، أمَّا الانسان العادي فليس فيضًا من الله بل خليقة ماديَّة نفخ فيها الله من روحه، والحجَّة الثانية ولادة المسيح من العذراء وبقاؤها عذراء بعد الميلاد، بالتالي لو كان المسيح إنسانًا ككلِّ الناس، لما ظلَّت مريم عذراء بعد ولادة يسوع من أحشائها، لكنَّها تبقى عذراء إذا كان يسوع يحمل من الإنسان الصورة والشكل الخارجي الذي لا ثقل له ولا كثافة ولا أي أمر أخر من أمور الإنسان العادي.
جاء الإنجيل المقدَّس في سلسلة الأفراد التي تحدَّر منها يسوع ليثبت أنَّ الله، حين أراد أن يحقِّق وعده الخلاصي ويولد ابنه إنسانًا من الناس، اختار شعبًا وعائلة من هذا لشعب ليكون واحدًا منها، يحمل دمها ولحمها وعظمها ولا يفرّقه عن أي إنسان منها، وبالتالي عن أبناء البشر عمومًا، أيُّ أمر استثنائي سوى أنَّه لم يولد من رجل بل من الروح القدس، وحافظ على كيانه البشري بلا خطيئة، لهذا نقول شابهنا في كلِّ شيء كالجوع والعطش والموت ما عدا الخطيئة.
2- تارخيَّة العمل الخلاصي لإبن الله
لا شكَّ في أنَّ خلاص الناس ليس طارئًا على مشروع الله الخلاصي، بل تعلِّمنا الكنيسة أنَّ ما من تاريخ عام وإلى جانبه تاريخ الخلاص، بل التاريخ كلُّه هو تاريخ الخلاص، وإذا كان البدء التكويني بعيد المنال عن العقول فالبدء التاريخي للإنسان سهل التحديد بمعنى أنَّه بدء علاقاتي جَمَع الإنسان إلى الله والإنسان إلى الإنسان، وبالتالي الى سائر البشر. أمَّا عمل المسيح المباشر في تاريخ الخلاص فما يهمُّنا منه في هذا الأحد، الذي نذكر فيه نسبه البشري، تجسُّده أو مولده من مريم التي تنتسب إلى عائلة كما كلّ بنات الأرض، أي لها أب وأم وجدّ وجدّة إلى آخر السلسلة، وبعد مولده نما بالحكمة والقامة والنعمة أمام الله والناس ثم علَّم واختار الرسل ثم تألَّم ومات وقبر وقام.
كلُّ هذه الأحداث هي تاريخيَّة بمعنى أنَّها حصلت على غرار أحداث الناس العاديِّين في زمان محدَّد ومكان محدَّد، لكنَّها تختلف عن أعمال الناس كونها تشمل بمفاعيلها الجنس البشري بل تتعدَّاه إلى كلِّ الوجود، وإن كانت غاية العمل الخلاصي الأولى والأهمّ هي خلاص الإنسان وإعادة ما خرَّبته الخطيئة إلى تمام غايته أي الحياة بالسعادة مع الله، حتى وإن توقَّف التاريخ أي إذا خرب الكون وقامت القيامة، كما يقولون، فإنجيل السلسلة أو نسب يسوع يؤكِّد على انغماس عمل المسيح الخلاصي بما هو للبشر بكلِّ ما تعنيه هذه الكلمة.
3- لماذا هذا النسب البشري لإبن الله
يتساءل البعض عن هذه السلسلة من البشر ويقولون: كيف يُعقل أن يكون لإبن الله أجداد من أبناء الناس الخطأة؟ الحقيقة أنَّ هذه السلسلة التاريخيَّة تثبت أنَّ التجسّد قد تمّ في زمان معيَّن وفي أسرة بشريَّة معروفة النسب وربَّما الحسب. بكلام آخر إنَّ الله حين أراد أن يتجسَّد ابنه الوحيد بشرًا، اختار عائلة من عائلات الناس ليولد من عذراء تنتسب إلى هذه العائلة، وهذا الأمر ليس صدفة أو ارتجالا، فقد بدأ الله علاقة واضحة وصريحة إسمها العهد مع أحد الناس وهو ابراهيم، فتعاهدا على أن يكون ابراهيم مع سلالته شعبًا لله وأن يكون الله الإله الواحد الأحد لهذا الشعب. هكذا يكون الله قد اختار واحدًا من الناس وبيّن له من خلال علاقته به أنَّه «ليس وحده» بل الله معه منذ اللحظة الأولى التي ترك فيها ابراهيم أهله وتوجَّه حيث شار الله عليه. وقد برزت العناية بشكل واضح حين وعد الله ابراهيم بأنَّه سيرزق ولدًا من سارة زوجته العجوز التي أصبح من المستحيل أن تحبل من دون تدخُّل الله وحصول معجزة.
4- كيف يكون الخلاص لجميع البشر بإنسان واحد؟
يتساءل آخرون كيف يكون الخلاص قد تمّ بالمسيح لجميع البشر، والمسيح واحد من هذه الأسرة على ما يذكر إنجيل السلسلة؟
شرح القديس بولس كلام الملاك لمريم حين بشرَّها بالحبل بيسوع وقال: «إبن الله يدعى ويخلّص شعبه من خطاياهم»، فقال بولس كما دخلت الخطيئة العالم بإنسان واحد هو آدم وبالخطيئة الموت، لأنَّ آدم يحمل في كيانه الطبع البشري، كذلك يتمّ الخلاص بإنسان واحد يحمل في كيانه كامل الطبع البشري وهو يسوع المسيح.
إنَّ كلام القديس بولس واضح لكنَّه ليس سهلاً، لذلك أضاف: «لقد تمّ الخلاص بيسوع لأنَّه بكر الراقدين من الموت»، أي أنَّه أوَّل من قام من بين الأموات وبقيامته هذه أخبر الناس كيف سيكون مصيرهم النهائي.
أعاد الله إلى الإنسان بهاء صورته التي شوَّهتها الخطيئة، وإذا كانت السلالة الأولى التي أتت من آدم وحوَّاء وتعود إلى التراب وروح الله، فالسلالة الثانية، التي أتت بالمسيح، تأتي من الروح القدس والنار أي بالمعموديَّة، هكذا فتح الباب أمام سائر البشر ليدخلوا الملكوت عن طريق سرّ العماد الذي لا يقف بطريقه حاجز العائلة أو السلالة أو العرق أو اللون، وهذه الدعوة موجَّهة لجميع البشر.
5- رجاء الآباء وانتظار الشعوب
في إحدى صلوات تساعيَّة الميلاد نذكر أنَّ المسيح رجاء الآباء وانتظار الشعوب. ففي هذه السلسلة من الأسماء المذكورة عند لوقا الإنجيلي ومتى الرسول إثبات على أنَّ يسوع هو المسيح المنتظر ملكًا وكاهنًا ونبيًّا، هو ابن الله، من دون أدنى شكّ، لكنَّه إبن البشر من دون أدنى شك. كذلك. شجرة عائلته هذه ترجع إلى آدم عبر داود وابراهيم، فالاباء هم كثر وأبرزهم ابراهيم واسحق ويعقوب وكلُّهم رقدوا وفي قلوبهم رجاء جعلهم يتوقون إلى يوم مجيء المخلِّص.
أمَّا الشعوب التي هي خارج العائلة الإبراهيميَّة، فكلَّمها الله بأساليب شتَّى وجعلها تنتظر مخلِّصًا أيضًا ينقذها من الألم والموت، لكنَّها بحثت عن هذا المخلص خارج الطريق التي انتهجها شعب الله المختار. غير أنَّ المسيح، القائل أنا الطريق، جعل كلِّ الطرق تلتقي به وفيه ومعه، فكان بتجسّده وموته وقيامته خلاصًا للجميع، خلاصًا للطبع البشري بالذَّات، من دون تمييز عرقي أو قبلي أو ديني أو ما شابه من الفروقات. بقي على الناس أن يصلوا بدورهم إلى هذه الطريق ليدخلوا الملكوت.
6- الفرق بين التسلسل التاريخي والمعنى اللاهوتي للأحداث:
لا شكَّ في أنَّ رابط النسب في إنجيل السلسلة موجود، غبر أنَّه ليس من الضروري أن تكون هذه الشخصيَّات وحدها في سلالة المسيح. ثمة أسماء لم تذكر وأحداث لم تُروَ، أمَّا هذه إنَّما ذكرت إمَّا لأهمِّيَّتها أو لدلالتها.
الإنجيل ليس كتاب تاريخ يرسم شجرة عائلة كاملة متلاحقة، إنَّه الخبر السار أو البشارة، إنَّه كتاب تعليم يخبر الناس بما هو ضروري، لمعرفة الحقيقة القصوى، كي يصلوا إلى الغاية المنشودة وهي الإيمان بيسوع إبن الله الذي تجسّد من مريم العذراء ومن الروح القدس وتألم ومات وقبر وقام لأجل خلاصنا. هنا في هذا المقطع بالذات كان هاجس الكاتب، بوحي من الروح، أن يثبت أنَّ المسيح دخل التاريخ من خلال عائلة بشريَّة ثابتة الأصول والجذور وأنَّ العهد الذي قطعه مع ابراهيم ثابت، وأنَّ الوعد الذي وعده لآدم وحواء قد تحقَّق بالتجسُّد.
أمَّا الأجيال الأربعة عشر التي ذكرت في إنجيل متى، فلا تعني ألف وأربعمائة سنة بين كلِّ واحد وآخر. لأنَّ الزمن التاريخي ليس كذلك، بل تعني تمام الزمان ثلاث مرات لأنَّ الرقم 14 المؤلف من 7+7 هو رقم الكمال ورمز لتمام الأمور، تمامًا كما نقول أعمدة الحكمة السبعة، أو جوَّات سبع بحور، أو فوق سابع سما، أو تحت سابع أرض، فهذا يعني تمام الأمر بكامله. الأجيال الأربعة عشر التي تصل مثلَّثة إلى المسيح إنَّما تعني ملء الزمان الذي حدَّثنا عنه بولس الرسول في الرسالة حين قال: «لقد كلَّمنا الله بأساليب شتَّى وفي ملء الزمن كلَّمنا بابنه الذي هو المسيح».