إن الولايات المتحدة وبالرغم من أن البعض يعتبرها القطب الأقوى في السياسة الدولية، لا تخرج عن كونها خاضعة لمعادلة الإمكانات والتطلعات، فهي لا تستطيع أن تتخطى سقف إمكاناتها الموضوعية إلا في الخطاب السياسي والبروباغندا فقط.
لذا لا بد من التروي وضبط سيل التوقعات التي تفتّقت بها اذهان البعض مع وصول دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية. فمن يريد أن يحدث تحولا نوعيا في السياسة الدولية وأن يغير في المعادلات، من المطلوب أن يكون قادرا أولا على الخروج من التحديات التي تواجهه على الصعيد الداخلي، وأن يمتلك أسباب القوة التي تمكنه من مواجهة التحديات التي تطرحها بوجهه القوى الكبرى المناوئة أو المنافسة له.
فعندما خرج دونالد ترامب ليحدد الخطوط العريضة لسياسته في المائة يوم الأولى من رئاسته قال: "سأخرج من مفاوضات الشراكة عبر المحيط الهادئ TPP"؟.
وهذا التصريح الافتتاحي لدونالد ترامب له دلالة هامة جدا، فهو فهم الدرس الذي مرت به إدارة الرئيس باراك أوباما خلال تجربتها تطبيق سياسة إعادة التوازن نحو آسيا والمحيط الهادئ التي أطلقتها في العام 2011 وهي سياسة مبنية على محورين: محور اقتصادي ومحور عسكري، وقد هدفت لاقتناص الفرص الاقتصادية من امام الصين كما هدفت إلى توفير توازن عسكري يحمي حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة ويحدّ من توسع النفوذ الصيني هناك.
لكن في أواخر العام 2015 طلب الكونغرس من وزارة الدفاع-البنتاغون العمل على إعادة تقويم هذه السياسة نظرا للمتغيرات العديدة التي طرأت على الظروف المحيطة بالمنطقة، وخلصت هذه المراجعة إلى أن من شروط إنجاح عملية إعادة التوازن إلى آسيا توافر موارد تمويلية عالية جدا، وهو ما يتعارض مع القيود التقشفية التي تتبعها الولايات المتحدة بموازنتها بفعل تراكم العجز والدين ما يعيق إنجاز عملية إعادة التوازن، هذه الخلاصة التي وصل إليها البنتاغون تسهم بتوضيح خلفية تركيز خطاب الرئيس ترامب على السعي لإيجاد الحلول الاقتصادية حيث قال: "اريد الجيل المقبل من الإنتاج والابتكار أن يحصل ضمن الأراضي الأميركية مما يؤدي الى توفير فرص العمل والثروة للعمال الأميركيين".
أما على صعيد المحور العسكري فان الولايات المتحدة لم تستطع مواكبة المتغيرات في المشهد الأمني في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، فاستراتيجية ردع التدخل المضاد الصينية تتوسع أبعد من التهديد التايواني وتمتد نحو الخط الثاني من الجزر قبالة السواحل الصينية، مما يهدد عددا أكبر من حلفاء الولايات المتحدة و يهدد حتى ارضا أميركية وهي جزيرة غوام، إضافة إلى تفاقم وتطور التحدي الكوري الشمالي من خلال التجارب النووية والصاروخية التي اطلقها في مطلع العام 2016، والتي لا تزال اصداؤها وتردداتها تتوسع حتى كتابة هذه السطور ما أدى إلى تراجع الثقة بقدرة الولايات المتحدة على تحقيق التوازن العسكري في المنطقة.
وبالمحصلة فإن مما يسهم في تفسير تصريح دونالد ترامب بأنه يريد الخروج من معاهدة الشراكة عبر المحيط الهادئ TPP هو ما ذكره رئيس مركز دراسات مجلس العلاقات الخارجية ريتشارد هاس ورئيس هيئة الأركان المشتركة مايك مولن ومفاده أن التهديد الأبرز الذي تواجهه الولايات المتحدة ليس تهديدا خارجيا إنما تهديد داخلي. فالولايات المتحدة تعطلت قدرتها على العمل بفعالية على الساحة الدولية بسبب هروب الرساميل، وتراكم العجز المالي والديون.
وبالنتيجة فالولايات المتحدة مضطرة إلى خفض نفقاتها ورفع عائداتها بمحاولة للخروج من معضلتها مما سيؤثر على مختلف أبواب الانفاق ولاسيما على صعيد تمويل سياستها الخارجية والإنفاق العسكري، وهي ستبحث عن شركاء يشكلون رافعة لوضعها الاقتصادي أو دعما له وليس عبئا عليه، وهو ما عبر عنه ترامب بأنهم سيعملون على إقامة مجموعة من العلاقات الثنائية التي تخدم بالنهاية أهدافهم الاقتصادية.
وفي الختام، فإن تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترامب المرتبط بالانسحاب من برنامج الشراكة عبر المحيط الهادئ إنما يدلل على واقعيته بالتعاطي مع الخسائر الاقتصادية تحديدا، وعدم استعداده لتحمل أعباء يستطيع التخلي عنها واستبدالها بسياسات أخرى ولو تركت أثرا على حلفاء الولايات المتحدة، وهذه الخاصية الواقعية تتناقض مع خطاب وسلوك الرئيس ترامب تجاه الصين، فإعلانه عن عزمه الانسحاب من برنامج الشراكة عبر المحيط الهادئ فيما لو أخذ طريقه للتطبيق، سيشكل فرصة ذهبية للصين لدفع خطة طريق الحرير والحزام الاقتصادي الاستراتيجية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وغيرها من الطروحات الاقتصادية التي كانت تنافس خطة الشراكة عبر المحيط الهادئ الأميركية، وبالتالي هذا الإعلان يعزز فرص الصين للمضي قدما بخططها الاقتصادية للمنطقة خاصة وأن المقاربة الصينية تعتبر أن الامن في آسيا هو أمن اقتصادي.
بناء عليه فإن استعراضات واستفزازات الرئيس ترامب للصين قد تكون محاولة لتغطية التراجع الأميركي في منطقة استراتيجية كمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، والهدف منها القول للحلفاء إن الولايات المتحدة لم تتخل عنكم ولم تتراجع في منطقة آسيا والمحيط الهادئ في حين ان الواقع يخبر ما هو خلاف ذلك إلى الآن.