شكّلت حلب الركيزة الأساس للرهانات الدولية والإقليمية والمحلية، حيث صنعت المشهد الاستراتيجي الجديد الذي يمكن تسميته "الربيع الدولي"، على أنقاض "الربيع العربي" المزعوم، والذي انهزم في سورية على صخرة صمود محور المقاومة المتحالف مع روسيا، والذي يلفظ أنفاسه الأخيرة ويبدأ هجرته العالمية لتأسيس منظومة "عولمة الإرهاب" التي ستصيب الجميع بدون استثناء، حيث يهيم التكفيريون في البلاد التي أرسلتهم، إما للانتقام والثأر، أو لفرض شروط لإعادة استيعابهم وتأمين الملجأ الآمن لهم لإعادة توظيفهم في المشاريع الأميركية - الغربية الجديدة، حيث لا يمكن لأميركا أن تستسلم أو ترفع الراية البيضاء وتتخلى عن مصالحها الأمنية والاقتصادية والسياسية.. ويمكن تلخيص النتائج الأولية للتداعيات الدولية لانتصارات حلب وفق ما يلي:
1- هزيمة أو إضعاف الاندفاع لمشروع الشرق الأوسط الأميركي الجديد الذي انهزم عام 2006 في لبنان، وفشل وتقهقر بعد حرب بدأت منذ العام 2011 حتى الآن.
2- إلغاء الأحادية الأميركية في المنطقة، حيث فتح صمود محور المقاومة الباب أمام روسيا لتأمين عودتها إلى المنطقة، بعد إخراجها من ليبيا، وبعد إخراجها من مصر على عهد أنور السادات.
3- ترسيخ الوجود الإيراني كقوة عظمى في الإقليم، باعتراف الدول العظمى والغرب، ليس على صعيد حلفائها في الدول العربية، بل بالوجود المباشر للدولة الإيرانية في المفاوضات والأحداث الإقليمية، والاعتراف بدورها ولو بالإكراه أو كأمر واقع.
4- إلغاء الدور الخليجي (السعودي - القطري) من الأزمة السورية مع بداية انطلاق التسوية السياسية، وفي حال تم إلحاق السعودية بالتسوية ستكون بموقف الضعيف وليس المقرر أو محتكر تمثيل المعارضة السورية بما عُرف بـ"معارضة الرياض".
5- تثبيت تركيا كممثل للإسلام السياسي (السُّني) ومنافس للسعودية التي فشلت في تبوّؤ زعامة العالم الإسلامي، وكذلك العالم العربي، وانكفأت إلى مجلس التعاون الخليجي، ولم تنجح في تحويله إلى اتحاد تسعى لترؤسه.
6- إلغاء الدور الأوروبي في المنطقة، أو تحجيمه على الأقل، بالإضافة إلى غرقها بالإرهاب التكفيري، الذي تسلل عبر اللاجئين السوريين الذين حاولت توظيفهم كورقة "سياسية - إنسانية" ضد النظام في سورية، مما انعكس عليها سلباً على المستوى الأمني، كذلك على المستوى السياسي - الانتخابي، بحيث ارتفعت أسهم "اليمين" و"اليمين" المتطرف، مما سيغيّر خريطة السلطة السياسية في أوروبا.
7- إعادة ترتيب التحالفات الإقليمية والدولية بشكل مستهجَن وغير متوقَّع، حيث تشتّت الحلف الأميركي المناقض لمحور المقاومة، فصارت تركيا أحد أركان حلف ثلاثي موضعي (تركيا وإيران وروسيا) في سورية، لكنه تجدّد على الصعيد الاقتصادي وعلى الصعيد الأمني لمرحلة انتقالية يحكمها تقاطع المصالح في هذه الدول، والتي يمكن تزايد عددها لتضمّ اليمن والجزائر والعراق، وتبقى سورية هي حلقة الوصل والتفاهمات لكل الأطراف، والتي ستستفيد منها سورية وفق نظام تبادل المصالح والتقديمات لإعادة الإعمار وتأمين مظلة دولية عبر مجلس الأمن، وإيجاد "ولي أمر" ميداني للإرهابيين، والذي تحتكره تركيا بنسبة كبيرة.
8- للمرة الأولى تظهر قوة غير أميركا تحجب دور الأمم المتحدة، وقد ظهر ذلك في المؤتمر الصحفي لإعلان موسكو على لسان وزير الخارجية الروسي لافروف الذي صرّح بعدم استطاعة الأمم المتحدة أو اللقاءات الدولية أن تساهم في الحل الميداني العسكري في سورية، وأن حلف موسكو قادر على ذلك، وهذه أول محاولة لفك الهيمنة الأميركية على الأمم المتحدة ومؤسساتها التابعة، والتي احتكرتها أميركا منذ تأسيس الأمم المتحدة، مما يشكل منعطفاً مفصلياً في دور الأمم المتحدة، والضغط عليها للبقاء في دائرة الحياد، وإلا تكون أداة لتنفيذ المشاريع الأميركية في العالم، وهذه خطوة أولى لا بد من مواصلة السير بها.
حلب تلد مرات ثلاث، في الأولى: أول انتصار لمحور المقاومة كجبهة واحدة، وثانيها: عودة الروس إلى المشهد الإقليمي والعالم العربي، والثالثة: بدء الربيع الدولي الذي سيطيح بالأحادية الأميركية، ويفتح الأبواب أمام عالم متعدد الأقطاب، بالإضافة إلى ولادة قوى عظمى إقليمية وربما دولية، وفي مقدمتها إيران.