في ملءِ الزمنِ، تجسّدت رحمةُ اللهِ في الابنِ المُرتَقَبِ منذ عهودٍ والذي أظهرَ لنا "مجدَ الآبِ" وحنانَه. بميلاده تبدّلتِ المعاييرُ وابتدأ عهدٌ جديد.
تساءلَ كلُّ من سمع عنه أو التقى به عن "هويّته ورسالته". مستحيلٌ الالتقاءُ به كعابر سبيل. فهو الذي رنّمته مريمُ قائلة:"صَنَعَ قُوَّةً بِذِرَاعِهِ. شَتَّتَ الْمُسْتَكْبِرِينَ بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ. أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِي وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ"(لوقا 1: 51-53). بالرّغم من مولدِه في مغارةٍ ومذود، جاءه الرعاةُ عُبّدًا والمجوسُ سُجّدا. فالأوّلون بشّرهم الملائكةُ والآخرونَ قادهم نجمٌ سماويّ. فكلُّهم تشوّقوا للقاءِ هذا الطفلِ الذي كان مولده خارقَ الأنظمةِ والطّبيعة. فما كان سرُّ هذا اللقاءِ التناقضيِّ في الشكل والمضمون.
تلك الليلة لم تكن صامتةً بل مدويّةٌ، ولا تلك الولادةُ طبيعيّة بل إلهيّةٌ. فلقد كسر يسوعُ الجدارَ القائمَ بين اللهِ والإنسانِ بكونِه إلهًا وإنسانا في آن،وبكونِه وحّد في شخصه الطبيعتين الإلهية والبشريّة دون انفصامٍ او اضمحلال."أخذ ما لم يكن عليه، ولم يبرح ما كان". ولكنّ مصالحته تخطّت لقاء السماء بالأرض، لتجمع الإنسان بأخيه الإنسان أمام طفل المغارة، بالرغم من تفاوت مستواه البشري، وتصالحه أيضا مع ذاته ومع الطبيعة والحيوان. فالعوامل كلّها اجتمعت في ولادة ليست كسائر الولادات وعظّمت المولود الجديد.
لقد عبقَ الليلُ بترانيمِ الملائكةِ ممجّدين اللهَ في العلى ومبشّرينَ أهالي الأرضِ بملك السلام. لقد كانوا أوَّلَ من تلقّى البشارةَ وحملها. لم يمنعهم فقرُهم المُدقِعُ وابتعادُهم عن ثراءِ المدينة وضوضائها من تقبّلِ البشرى السارة "والعبورِ" مسرعينَ لملاقاةِ الغنى الحقيقي. لقد جذبهم هذا الطفلُ الإلهي الراكدُ مع أمّه وأبيه. فدُهشوا ورجعوا "وَهُمْ يُمَجِّدُونَ اللهَ وَيُسَبِّحُونَهُ عَلَى كُلِّ مَا سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ كَمَا قِيلَ لَهُمْ" (لوقا 2:20). لقد كان إيمانُهم صدًى لكلِّ ما سمعوا ورأوا.
لقد تكلّمَ اللهُ من خلال فَقرِ الرّعاةِ وبساطتِهم، وهو الذي أتى من أجلِهم. ما أجملَ هذه المكافأة التي وُهبت لهم! لقد أسرعوا كالأطفالِ أمام هديّةِ العيد، فكان هديّتَهم. فطوبى لهم كفقراءِ القلوب لأنّهم عاينوا الله. لقد لاقوهُ كما هم، ولم يتذرّعوا بأنّ حالتَهم لا تسمحُ لهم، أو بأنّ ما هم عليه من الدون هو لعنةٌ من الله. لقد أتى الرُّعاةُ، تاركينَ قطعانَهم الحيوانيّة، ليلاقوا الراعي الصّالحَ الذي سيقودُهم إلى المراعي الخصبة، إلى الخلاص. لقد شعروا أن هذا الملكَ يشبهُهم، أنّ هذا الطّفلَ مختلفٌ، وأنَّ تاريخَه سيبدّلُ التاريخ الذي هو أوجده وأوجد ذاتَه فيه. "فَهُوَ، معَ كَونِهِ في صُورَةِ الله، لَمْ يَحْسَبْ مُسَاوَاتَهُ للهِ غَنِيمَة، بَلْ أَخْلَى ذَاتَهُ، مُتَّخِذًا صُورَةَ العَبْد، صَائِرًا في شِبْهِ البَشَر" (فيلبي 2:6).
وفي ناحيةٍ أخرى من هذه البلاد الشاسعة، مجوسٌ يراقبون الفلك. ما هَمَّ إذا كانوا كهنةً أو ملوكًا كلدانيّين أو فارسيّين، فهم يهتمّون بدراسةِ الفلك والظواهرِ الفلكية ويعتقدونَ أنّ مع كلِّ ظهورِ نجمٍ غريبٍ ولادةً فريدة. فلقد تبعوا "ملاكَ الربّ" المتحرّك ليدلَّهم على المسيح الملكِ المولود من امرأةٍ عذراءَ من نسلِ داوودَ. فلقد تخطّى حدثُ ولادتِه المكانَ والزمان ليكونَ حدثا كونيّا. فلقد برز هذا الكوكبُ "من يعقوب" (عد17:24). لقد تقدّمهم النجمُ ليدلَّهم على الشّمسِ الحقيقيّةِ التي نستمدُّ منها النّورَ الإلهيّ(1)، كما يهدينا الكتابُ المقدّس اليومَ إليه مرنّمين: "إنّ كلمتَك مصباحٌ لخطايَ ونورٌ لسبيلي". فبينما رفضَه اليهودُ وملكُهم هيرودسُ المُعمى قلبُه بسببِ السلطة وثرواتِ هذا العالم، أتى إليه رؤساءُ الأممِ الوثنيّون، فكان مجيئُهم توبيخًا لمن رفضَه ونعمةً لمن بحثَ عنه بأمانة. جاء المجوسُ في موكبٍ عظيمٍ يتقدّمُهم ثلاثةٌ من كبارهم يحملون الهدايا للملكِ العجيب. فمن هداياهم عرفناهم أغنياء. قدّموا له الذّهبَ إشارةً لمُلكيّتِه والمرَّ لنبوءتِه وآلامِه واللّبانَ لكهنوتِه. فها هي كنيسةُ الأمم منجذبةٌ لعريسِها الملك. ها المجوسُ يقرّون ويسجدون لملكِهم الحقيقيّ الذي سيتألم ويفتديهم بذبيحةِ جسدِه.
فالرعاةُ والمجوسُ اقتيدوا إلى مكان ولادة يسوعَ. لقد أتوا بالطريقة ذاتِها منقادين وإلى المكانِ ذاته، ولكن كلٌّ بخصوصيّته. فليس أمامَ المسيح فقرٌ أو غنًى، بل قلبٌ مستعدٌّ لقبولِ المخلّص. لم يكن يسوعُ بحاجةٍ لزيارة الرعاةِ ولا لهدايا المجوس، بل كان يريدُهم هُم. لقد أراد أن يأتوا كما هم، لأنّهم بمجيئِهم حسب طبيعتِهم–أغنياءً أو فقراءَ-محبوبون. كان باستطاعةِ كلٍّ منهم المجيءُ لأنّ حضورَهم أغلى من ذهبِهم وقلبَهم أهمُّ من بخّورِهم. تجلّي وتجسّد "محبّة الآب" -الابن- تجاه أبنائه تفوق غنى هذا العالم وهمومه.
يسوع هو اللهُ-الطفلُ لأنّ الأطفالَ حبٌّبريءٌ ومجّانيّ. فلقد جمع يسوعُ في ولادتِه كلَّ الأضدادِ: البريءَ مع العالِمِ بكلِّ شيء، الضعيفَ مع كليِّ القدرة، المشروطَ مع الحرِّ، الخالقَ مع ثمرةِ الخلقِ، يتيمَ الأبِ ويتيمَ الأمِّ مع أبوّة وأمومة السماء. أوجدَ يسوعُ حالةً جديدةً هي يسوعُ الحالة. بمولدِه كشفَ لنا أنّ وجودَنا معه ليسَ حكمًا مبرمًا، أو قضاءً، أو تعريفًا أو فلسفةَ وجود، بل هوَحضورٌعلائقيٌّ مع كلِّ ما يحيطُ بنا بالحبِّ وبالمفاجآت. فأيُّ نقيضٍ جمعَ الله فينا وماذا قدّمْنا له؟ فهل ما زلنا نصنِّفُ الناسَ بحسبِ وضعِهم الاجتماعيِّ، الثقافيّ او المدنيِّ أو بحسب قلبِهم؟ فهل أنستْنا الهديّةُ يسوعَ أو اتّخذناهُ هديّتَنا؟
فشكرًا لمن كانت النّقيضةَ والموحّدةَفي آنٍ، شكرًا لأمِّ الفقراءِ والأغنياءِ، شكرًا لمريمَ العذراءَ التي جسّدت ورَوْحَنت في أحشائها "من يرهبه الكاروبون ويحدّق به السارفون". شكرا لمن فتحت قلبها للإيمان، وشفتيها للقَبول، وحشاها للخالق. شكرا لمن تشاركنا من جديد ولادة ابنها في مجتمعنا، وقلبنا وحياتنا.
* مدير جامعة سيّدة اللويزة-فرع الشوف
(1) ومن هنا إضاءة القنديل في شرقية المذبح إشارة للنجم الذي يهدينا إلى أحضان النعمة في الإفخارستيا.