دشّن تحرير حلب من الإرهابيين مرحلة جديدة من الصراع في سورية وعليها، بل من الصراع في الإقليم وعليه. لا غلوّ في القول إنّ إعلان وقف إطلاق النار على جميع الأراضي السورية قبل ساعات من انبلاج فجر عام جديد يشكّل حلقة متقدّمة في سياق الصراع جرى استعجالها لتكوّن بمفاعيلها البعيدة المدى أمراً واقعاً قبل تنصيب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة في 20 كانون الثاني/ يناير 2017.
حقائق عشر استراتيجية تنطق بها ملامح مرحلة الصراع الجديدة:
أولاها انّ إعلان وقف إطلاق النار ينطوي على تفاهم يرتقي الى مستوى اتفاق استراتيجي بين روسيا وتركيا وإيران لتدبّر شؤون إقليم غرب آسيا الممتدّ من جنوب شواطئ بحر قزوين الى شرق شواطئ البحر المتوسط والمشاركة تالياً في رسم الخرائط السياسية لمصائر بلدانه ومصالحها من خلال منافسة محمومة مع الولايات المتحدة ترتقي الى مستوى حرب باردة.
ثانيتها انّ الاتفاق الثلاثي ينطوي على شريك رابع ضمني هو سورية. إيران تتصرف كوكيلة لسورية في مداولات قادة الاتفاق، وروسيا كحليفة داعمة لها.
ثالثتها انّ الرئيس بشار الأسد بكّر في التزامه إعلان وقف اطلاق النار، واعتبره مدخلاً للإصلاح السياسي والدستوري ولتأليف حكومة جديدة. وما كان الأسد ليفعل ذلك لولا أنّ تحرير حلب أوجد ميزان قوى جديداً لمصلحة حكومته يمكّنها من تعزيز مركزها وتغليب شروطها في المفاوضات المقبلة مع أطراف المعارضة السورية سواء في الأستانة كازاخستان أو في جنيف.
رابعتها انّ رجب طيب أردوغان كرّس باتفاقه مع روسيا وإيران استدارةً واضحة بعيداً عن الولايات المتحدة التي باتت في نظره حليفة مموّلة ومسلحة لخصومه من الأكراد السوريين المتعاونين مع حزب العمال الكردستاني والمنخرطين في مشروع لإنشاء كيان سياسي للأكراد بين سورية والعراق وتركيا.
خامستها انّ السعودية استشعرت خسارتها معركة قلب النظام في دمشق والعراق بسبب فتور الولايات المتحدة في الحرب ضدّ خصومها في سورية واليمن فاختارت انتهاج سياسة تحديد الخسائر في ساحتي سورية والعراق بتعبئة الجهود الرامية الى إقامة جبهة خليجية وعربية مناهضة لإيران، وبمحاولة إقناع الولايات المتحدة بضرورة معاودة دعمها وحلفائها لمجابهة طهران.
سادستها انّ الولايات المتحدة استشعرت مخاطر الاتفاق الثلاثي وانعكاساته السلبية على نفوذها ومصالحها في غرب آسيا كما على أمن «إسرائيل» فتظاهرت بتأييد إعلان وقف إطلاق النار في سورية، إلاّ أنها أرفقت ذلك بإعلان سلسلة عقوبات صارمة ضدّ روسيا بينها طرد 35 ديبلوماسياً وإغلاق مجمّعين روسيين في ولايتي نيويورك ومَرلاند لهما صلة بأنشطة استخبارية بدعوى ثبوت علاقتها بهجمات ألكترونية ضدّ مقار الحزب الديمقراطي أثناء حملة الانتخابات الرئاسية الأمر الذي سيؤدّي الى إرباك ترامب في سعيه الى التلاقي مع فلاديمير بوتين على محاربة الإرهاب، ولا سيما تنظيم «داعش»، واعتباره قاسماً مشتركاً للتعاون بينهما على الصعيد الإقليمي.
سابعتها انّ قلق «إسرائيل» تضاعف بعد الاتفاق الثلاثي. ذلك أنها تشعر، ولا سيما بعد موافقة واشنطن الضمنية على قرار مجلس الأمن الدولي بإدانة الإستيطان ووجوب وقفه، بأنّ إدارة أوباما قد استكملت، على حدّ تعبير مدير الإستخبارات الإسرائيلية السابق عاموس يادلين، «ارثاً إشكالياً من الإخفاقات في الشرق الأوسط: الوقوف موقف المتفرّج مما يجري في سورية عدم القدرة على الانتصار على «داعش» التسبّب بفراغ إقليمي ملأته روسيا وايران سلسلة أزمات عدم ثقة بين ادارة اوباما وحلفائها في المنطقة». وقد فسّرت المؤسسة الحاكمة في «إسرائيل» الإتفاق الثلاثي بأنه تكريس للوجود العسكري الإيراني في سورية، بالإضافة الى الوجود العسكري الروسي الأقدم عهداً ودوراً. ذلك كله يؤدّي الى مضاعفة اعتماد الكيان الصهيوني على الولايات المتحدة كحليف وحيد له من جهة، وتعقيد مهمة ترامب الراغب في دعمه وإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لمصلحة الصهاينة من جهة أخرى.
ثامنتها انّ قرار مجلس الأمن بإدانة الإستيطان الصهيوني ووجوب وقفه قضى في الواقع على ما يسمّى العملية السياسية، ايّ «خيار» المفاوضات بين «إسرائيل» والفلسطينيين. ذلك انّ الفلسطينيين لا يستطيعون بعد ذلك القرار العودة الى طاولة المفاوضات، كما سيستنتجون بأنّ التجاذب مع مطالبهم سيأتي من الأمم المتحدة وليس من التفاوض مع «إسرائيل» وفق شروطها، وانّ إيران ستغتنم الفرصة المتاحة لمضاعفة دعمها لتنظيمات المقاومة الفلسطينية التي سيبدو نهجها منسجماً مع قرارات مجلس الأمن والشرعية الدولية.
تاسعتها انّ إيران التي تحظى بنفوذ واسع في العراق ومثله في سورية، وخصوصاً بعد وقف إطلاق النار فيها وبالتالي توسيع جبهة القوى المضادة لـ «داعش» و«النصرة» وحلفائهما وترجيح القضاء عليهما، ستحظى بميزة استراتيجية إضافية هي وصولها الى الشاطئء الشرقي للبحر المتوسط عبر جسر بري عراقي – سوري، وانّ من شأن ذلك ردع «إسرائيل» بل تهديد وجودها إذا ما حاولت مهاجمة إيران للقضاء على صناعتها النووية، إذّ تصبح هدفاً سهلاً لصورايخ إيران البعيدة كما القريبة المدى على طول خط جغرافي متواصل من شواطئ بحر قزوين شرقاً الى شواطئ البحر المتوسط غرباً.
عاشرتها أنّ نجاح محور المقاومة بالتعاون مع روسيا وتركيا في إجلاء «داعش» و«النصرة» عن المناطق التي يحتلها الإرهابيون في العراق وسورية لن يقضي على ظاهرة الإرهاب كلّها، ذلك انّ تنظيمات الإرهاب ستعود الى نهجها القتالي القديم القائم على تنظيم خلايا «نائمة» بين السكان الآمنين وتدريب «ذئاب منفردة» مندسّين بين الأهالي في المدن والقرى والهجوم بهؤلاء جميعاً في أوقاتٍ متفاوتة وأماكن مختلفة على الإنسان والعمران في كلّ مكان، من هنا تتضح حقيقة ساطعة هي انّ القضاء على الإرهاب مسار وليس مجرد قرار، وانّ الأمر يتطلب استراتيجية متكاملة الجوانب والأبعاد والأطراف والساحات، وانّ الجهد الرئيس يجب ان يتركّز على استهداف أسبابه وجذوره، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وانّ ذلك يتطلب زمناً طويلاً.
إنها حقائق عشر تنطوي على عشرات التحديات وتضجّ بصراعات مريرة تتطلب عشرات السنين لحسمها.