جيدٌ أننا ما زلنا نحزن. مفيدٌ أننا ما زلنا نحزن. جميلةٌ أحزانُنا نحن أبناءَ الإيمان أو مدّعيه. جميلةٌ أحزانُنا نحن المؤنسَنين غير الإنسانيين. وكأني بإنسانيتنا لا تثق فينا. تختبرنا في غير مناسبة. تذكّرنا ببعض الإسقاطات الثابتة في يومياتنا. تُملي علينا موجبات مجتمعية. تقول لنا أن نبكيَ برعمًا، أن نراقصَ نعشًا، أن نعانقَ صورةً، أن نلتحفَ أسودَ، أن نهاجمَ مخبولًا. ربما تنسى إنسانيّتُنا أن تخبرَنا بأنّ “الدور عَ اللي راح”، وأن ذاك التبكبك سرعان ما سيغادر مسارح ذواتِنا بعد هنيهاتٍ، ساعاتٍ، أو أيام في أطول معالم صموده.
خبيثةٌ إنسانيّتُنا على جمالها. متبرّجة بكثير من الألوان غير الظاهرة. خبيثةٌ إنسانيّتُنا لأنها ابنةُ حياةٍ ليتها تغدو عاقرًا كي لا تلد مزيدًا من مشاريع الموتى. خبيثةٌ إنسانيُّتنا لأنها شديدة التمظهر، عاشقة البروز، تنهل من الآلة والتقنية ما يجعلها غير دفينة، ما يسرق منها خصوصيّة البكاء والعزلة والحزن الفعلي.
خبيثةٌ إنسانيّتُنا لأنّ تراكمات المرارة جعلتها عابرةَ سبيل، لا بل لأن إيمانًا ما بقيامةٍ أكيدة يغذيها بنعمة التناسي من أجل السيرورة والصيرورة.
هكذا نطوي الحياة... نسبق ليلَ الموت وإذ به يغفلنا فيطوينا. نتعقّب أنفاسًا تحت التراب. لا ندعها تستريح. لا نريدها أن تستريح. نأبى أن تستريح هي كي لا نتعذّب نحن. نبحث في لاراحتها عن راحتِنا. عيونُنا جائرة. تريد أن تلمح، أن تبصر، حتى آذاننا جائرة. لا يضنيها أنينٌ أو صراخ، المهم أن تسمع ذاك الصوت الآتي من قريب أو بعيد.
ربما نقسو على الحياة نحن أبناء الإيمان فتقسو علينا. نظلمها فتظلمنا من دون أن تستأذن مانحَنا إياها. لو فعلت لما سمح بذلك، لما ارتضى بذلك هو الواهبُ المحبُّ المنجّي. حكمًا لا يرتضي بهذه البشاعة. لنا لكلّ ملمّة تفسير. هي تلك الحكمة نرمي عليها كلَّ آلامِنا وآمالِنا وملامِنا.
في الأمس تبرعمت آلامُنا. لم تتفتّح. هي عصيّة على ذلك لأنها لا تعرف الذبول. تخشاه خشية خفّاشٍ من الضوء. تخشاه خشيةَ كافرٍ من الصلاة. تبرعمت آلامُنا ولم تتفتّح لأنها على يقين بأنها ستواعد الأسود مجددًا. هو عقيلُها، لا يتركها تتحرّر. لا يدعها بحالها. لا يطلّقها.
في الأمس رحل ثلاثتُهم معًا. ما تركوا للأمل مطرحًا سوى في بعض نواصي إيماننا الذي ما إن يهتزّ فينةً حتى يشتدّ مسافات. في الأمس رحل ثلاثتُهم معًا وما هنئ من العام مطلعُه ولا استفاق الناس من سكرة موت أواخر العام. لربّما هي السُّنّة التي نسمع بها. لربّما هم الوردة التي تتبرعم يتيمة في عزّ الصقيع فتُخرِج رأسها خفرًا بين الثلج لتلوّن بُهتَه. من صقيع إنسانيّتنا رحلوا الى دفء واهبنا وواهبهم. تيك الزائلة المصطنعة الظرفية السخيفة وذاك الحقيقي الجميل الباقي سرمدًا.
في الأمس سقطت إنسانيّتنا رغم ظنّ ناسها بأنها ارتقت بمعانقة أختٍ عاشت لأجله وتطييب خاطر زوجة لم تعد كذلك ومسْح دمع أب أرمل الزوجة والابنة. سقطت وأمعنت في السقوط في كلّ لحظة. سقطت مع كلّ مشهدٍ سمحت الشاشات لنفسها بنقله. سقطت مع كلّ لغوٍ سمح ناقلُ المشهد بملء شغور الوقت والفكر به. سقطت مع كلّ شتيمة لمن هو خارج حساب البشريّة أصلًا. أوَيُلام غير بشريّ على تفوّهاتٍ تكتسي طابعًا بشريًا؟
في الأمس إنتصر ثالوثٌ آخر. إنتصر بصمت رحيله على ضجيج إنسانيّتنا. إنتصر بحكمة رحيله على تفاهة إنسانيّتنا. إنتصر بصفاء رحيله على خبث إنسانيّتنا. تلك الإنسانية التي ما إن نحتكم بها وإليها حتى نهجرها... تلك التي لا تعني أولئك البراعم الثلاثة بقدر ما تعنيهم صلواتُنا علّنا نكفّر عن إنسانيّتنا...
* الى روح الياس وريتا وهيكل.