بحسب آخر ما أعلنته وسَرّبته السُلطات التركيّة من معلومات ومن لقطات مُصوّرة بشأن التحقيقات الخاصة بالإعتداء الدمَوي الذي وقع في إسطنبول ليلة رأس السنة، وبحسب تقاطع شهادات الناجين من هذه المجزرة، صار من المُمكن تسجيل سلسلة من الملاحظات التي تُعطي مُجتمعة، فكرة أوّلية عمّا حصل في تلك الليلة المَشؤومة، وعن كيفيّة تنفيذ الهُجوم وعن كيفيّة الفرار من الموقع أيضًا.
أوًلاً: لا مصلحة للسُلطات التركية بتهريب القاتل ولا بإخفاء المُتورطين، فالضربة المعنوية القاتلة لاقتصادها ولسياحتها، تزداد تأثيرًا في حال الفشل في كشف هؤلاء المُتورطين وفي توقيفهم. لكن في الوقت عينه ليس سرًّا أنّ النظام التُركي يواجه حاليًا مجموعة واسعة من الأعداء داخل تركيا وخارجها(1). وقوى الأمن التركيّة التي فصلت عشرات الآلاف من عسكريّيها في الماضي القريب بسبب محاولة الإنقلاب الفاشلة، تُعتبر حاليًا مخروقة، ولا يُمكن الوثوق بكل عناصرها.
ثانيًا: إنّ المُنفّذ الميداني الأساسي للهجوم المُسلّح كان وصل إلى اسطنبول في 20 تشرين الثاني، أي قبل نحو شهر وأسبوعين من تنفيذ الإعتداء، برفقة سيدة وطفلين، مُدّعيًا أنّهم أفراد عائلته، بهدف التمويه والمرور من دون شبهة على رجال الأمن على الأرجح، علمًا أنّه كان يحمل جواز سفر مزوّرًا. وهو إنتقل مع "عائلته" المزعومة إلى أنقره ثم إلى قونيا حيث استأجر منزلاً، ودفع الإيجار سلفًا لمدّة ثلاثة أشهر كاملة. وفي 29 كانون الأوّل إنتقل وحده إلى ضاحية "زيتينبورنو" في اسطنبول، حيث إختبأ في منزل مُستأجر بنفس الأسلوب من قبل خليّة إرهابيّة مُعاونة له، أي عبر الدفع سلفًا وبهويّات مزوّرة(2).
ثالثًا: قُرابة الأولى إلا ربعًا من ليل اليوم الأخير من العام 2016، إستقلّ المُهاجم الرئيس سيّارة أجرة عادية، وإنتقل من دون أسلحة أو مماشط، من المنزل المُستأجر إلى موقع قريب من ملهى ومطعم "رينا" على نهر البوسفور، ثم ترجّل منها قبل نحو 300 إلى 400 متر، وسار بشكل طبيعي من دون أن يلفت الإنتباه. وعلى مسافة قريبة من موقع الإعتداء، إنحرف الإرهابي إلى خلف أحد المباني حيث كان مُتواطئًا مع آخرين لترك حقيبة صغيرة بشكل مخفي عن عيون المارة، وفيها بندقيّة رشّاشة ومجموعة من المماشط المثبّتة داخل معطف داكن اللون. وبعد إرتدائه السترة المذكورة، وحمله السلاح، تحرّك بسرعة والتفّ من خلف المكان المُستهدف نحو المدخل الرئيس، وأطلق بداية النار على الشرطي المُسلّح الوحيد أمام "رينا"، قبل أن يُتابع إطلاق النار على الأشخاص غير المُسلّحين المُولجين تنظيم الدخول إلى مكان السهر. وتبيّن بحسب كاميرات المراقبة أنّ المُهاجم قادر على إطلاق النار وتحقيق الإصابة أثناء الركض، وهو ما يستدعي تدريبات عسكريّة خاصة تخصّ عادة فرق النخبة من العسكريّين، لأنّ الهدف مُتحرّك ومُطلق النار يتحرّك أيضًا، الأمر الذي يُضاعف من صُعوبة تحقيق الإصابات لغير المُتمرّسين. كما أنّ المُهاجم إختار إطلاق النار بوضعيّة الطلقات الفرديّة المُتتالية، وليس بوضعيّة الطلقات الجماعيّة، لأنّه واثق من قُدرته على الإصابة، وكذلك لعدم هدر الذخائر التي بحوزته وإيقاع أكبر قدر مُمكن من الإصابات بها!
رابعًا: داخل الملهى وبسبب أصوات الضجيج والموسيقى العالية، تأخّر الكثير من الساهرين في التحرّك والفرار، علمًا أنّ العديد من الأشخاص يُصابون بالإرباك وبالعجز عن التفكير السليم أو عن الحركة في هكذا حالات من الخطر الدمَويّ المُفاجئ. ومن خلال حركة المُهاجم السريعة بين أقسام الملهى الضخم، والذي يضمّ العديد من المطاعم ومنصّات الرقص، تبيّن أنه يعرف المكان بأدقّ تفاصيله. وبحسب ما سُرّب عن التحقيقات فإنّ إطلاق الرصاص إستمرّ لمدّة 7 دقائق، وهي مدّة كافية ليحسبها المُستهدَفون بأنّها دهر كامل، علمًا أنّ الدقيقتين الأخيرتين إستهدفتا الأماكن غير المكشوفة من "رينا" مثل الحمّامات والممرّات الداخليّة، إلخ! وقد قام المُهاجم بتغيير ممشط السلاح الرشّاش بين يديه خمس مرّات كما تبيّن من الممَاشط الفارغة المرميّة في الداخل، علمًا أنّ مماشط التبديل(3)كانت متصلة بعضها ببعض لزيادة سرعة "التذخير"، حيث لم يكن عليه سوى كبس زرّ الرشاش الجانبي لإخراج الممشط الفارغ، وقلبه إلى الأعلى ليُصبح الممشط الجديد جاهزًا للإستخدام(4).
خامسًا: بعد تنفيذه المجزرة، قام المُهاجم برمي المعطف الذي كان يرتديه والذي كانت فيه الذخائر، وخرج بمعطف عليه دماء، لم يُكشف بعد إذا كان عائدًا لضحيّة ما، أم أنّه معطف ثان كان يخفيه تحت معطفه الأوّل، وهو تعمّد على الأرجح تلطيخ نفسه بالدماء عند بقائه لبضع دقائق داخل المطبخ بعد تنفيذه الهُجوم، لتسهيل فراره لاحقًا، حيث كان من السهل عليه تصنّع أنّه كان أحد الساهرين الذين أصيبوا بشكل طفيف بالهجوم، لخداع رجال الأمن الذين حاصروا الموقع المُهاجم، وبعد الإبتعاد قليلاً عن المكان، إستقلّ سيارة أجرة ثانية، وإستعان بهاتف السائق للإتصال بأحد معاونيه مُدعيًا بأنّه يتصل بقريب لمُلاقاته، وهو نزل عند تقاطع وليس أمام منزل مُحدّد، قبل أن يُفقد أثره عندها.
سادسًا: لم يثبت بعد وُجود أكثر من مُسلّح داخل الموقع المُستهدف، على الرغم من أنّ بعض الناجين تحدّثوا عن سماع المُهاجم يتكلّم مع آخرين من دون أن يستطيعوا تحديد طبيعة الحديث أو الغاية منه. وبحسب المُحقّقين إنّ الإحتمالات مفتوحة بين أنّ المُهاجم كان يسخر من ضحاياه بشكل أو بآخر، أو كان يتحدّث مع شخص مُتواطئ معه من داخل الملهى، لكن من دون أن يكون هذا الأخير مُسلّحًا، باعتبار أنّه لم يتم إيجاد سوى قطعة سلاح واحدة مع مماشطها الفارغة بعد الهجوم.
سابعًاً: بالنسبة إلى ما قيل عن عدم تدخّل الفريق المُكلّف بضبط الأوضاع داخل الملهى، فإنّ المُحقّقين أكّدوا أن لا أسلحة بحوزة هؤلاء، ولا قدرة للقامات المَمشُوقة وللعضلات المفتولة على مُواجهة الرصاص، حيث أنّ وظيفة هؤلاء الـBouncers، منع الإخلال بالنظام داخل الملهى وفضّ أي أشكال بين الساهرين! وبالنسبة إلى عدم تدخّل قوى الأمن في المنطقة، وتأخر وُصول الدعم، نفى المُحقّقون هذا الأمر، وقالوا إنّ الشرطيّين الذين كانوا مُنتشرين في الشارع سمعوا أصوات إطلاق النار، وقاموا فورًا بإرسال نداءات بشأنها إلى قطعاتهم الأمنيّة، لكنّهم لم يتحرّكوا من أماكنهم لأنّ أي عسكري مُولج بحماية مكان ما لا يُمكنه تركه والتوجّه إلى مكان آخر من تلقاء نفسه، بل ينتظر الأوامر لذلك بحسب كل الأعراف العسكريّة المُطبّقة. وفي ما خصّ الدعم الأمني فهو وصل إلى المكان المُستهدف بسرعة، وتحديدًا بعد نحو 6 دقائق فقط من تلقّي النداء الأوّل، وجرى تطويق المكان من جهات عدّة ولكن ليس من كل الجهات بسبب نقص في عديد العناصر. إلا أنّ القوّة الأمنيّة إنتظرت في الخارج أكثر من 5 دقائق أخرى قبل أن تبدأ باقتحام المكان، كونها تعاملت بإرباك مع الوضع الفوضوي الذي ساد، حيث كان العشرات يفرون من الملهى(5)في ظل حال من الهلع الشديد، الأمر الذي جعل قوى الشرطة تشتبه بكثير من الناجين وتحاول التحقّق منهم، الأمر الذي أبطأ دخولها.
في الخلاصة، الأكيد أنّه لا يُمكن الجزم بأيّ "سيناريو" لما حصل بشكل حاسم، في انتظار أن تكشف السُلطات التركيّة عن الحقيقة الكاملة لمجزرة اسنطبول، لأنّ مصلحتها العليا تقضي بذلك، قبل أي سبب آخر.
(1)من أنصار "داعش" والعديد من التنظيمات الإسلاميّة المُتشدّدة، مرورًا بالعديد من الجماعات الكرديّة وتلك التي تورّطت بانقلاب الخامس عشر من تموز 2015، وُصولاً إلى مجموعة من الدول وأجهزة الإستخبارات الإقليمية والدوليّة.
(2)بعد تنفيذ الهُجوم توصّل المُحقّقون إلى المنزلين، وداهموهما ووجدوهما فارغين، من دون أي أثر لأي شخص، لكن بعد حين جرى إعتقال زوجة المُتهم وبعض سماسرة العقارات في المنطقة وبعض أفراد العائلات القليلة التي تواصل معها المُهاجم، بهدف التحقيق.
(3)كل ممشط يتسع لثلاثين طلقة، أي تمّ إطلاق ما مجموعه 180 رصاصة، مع إحتساب المشط الذي كان أصلاً داخل الرشّاش.
(4)إشارة إلى أنّ عملية تبديل الممشط وتلقيم الرشاش من جديد، تستغرق بين ثانيتين وثلاث ثوان للمُتمرّسين، وليس كما تردّد من أنها تحتاج لأكثر من 10 أو15 ثانية.
(5)فرّ المئات قبل وُصول القوّة، علمًا أنّ أكثر من 500 شخص من أصل نحو 650 كانوا ضُمن الساهرين وفريق العمل في "رينا"، لم يُصابوا بأذى، حيث لاحق الحظ العاثر نحو 110 أشخاص فقط من بين كل المَوجودين.