تساءل صديقي المغترب في أميركا، خلال زيارته الأولى إلى وطنه الأم، "لماذا تتواجد كل هذه المقاهي في شوارعكم؟". مرّ على أرصفة الطريق، محاولا فهم سبب انتشار هذه الطاولات والكراسي عليها. بكل عفوية اجبته إن الشباب ينتظرون المساء لافراغ تعب النهار. وَقْعُ جوابي هذا كان أكثر صدماً لصديقي، "فاذا كان أغلب شبابكم في المقاهي، فلا داعي لأن أسألك عن مستوى الثقافة أو الوعي في وطنكم"، قال لي.
قد يكون هذا الحُكم على الشباب ظالماً، خصوصاً وأن بعض النقاشات والحوارات التي تدور في بعض المقاهي تتمحور حول مواضيع ثقافيّة. الا أن عدد المقاهي المنتشرة بشكل واضح في غالبيّة شوارع العاصمة، وعلى وجه الخصوص في ضواحي بيروت، بات أكثر من المنطقي، ويستدعي التساؤل.
فمثلاً، في شارع دكاش في حارة حريك أو ما يعُرف بشارع "الشورى"، والذي لا يتجاوز طوله الـ500 متر، ينتشر ما يقارب عشرة مقاهي والتي تبقى مكتظة بروادها حتى منتصف الليل. وفي الطريق الجديدة، وتحديداً في "طلعة الجامعة العربية"، ولمسافة تقارب "الشورى"، لا يختلف الواقع عن حارة حريك اذ تجد المقاهي متراصفة فيما بينها.
"لا يوجد شيء يحفّزني على القيام بأي شيء في لبنان، لا فرص العمل متاحة، لا الكفاءات تلعب دورها في التقييم الوظيفي، فلماذا أتعب وأشقى؟ الجلوس هنا أفضل من عيش هموم الحياة اليومية". هكذا يبرر محمد (28 عاماً)، جلوسه في مقهى الـ"LA Liga" في شارع دكّاش لأكثر من 3 ساعات في اليوم.
ينهي محمد عمله عند الساعة الخامسة من عصر كل يوم، يصل إلى منزله حيث يتناول وجبة طعامه، يتّصل بأصدقائه ومن ثم يتوجه إلى "مكان الراحة". "هنا لا يوجد هموم، كل ما نريد هو أن تكون "الأركيلة طيّبة" وأن نضحك سوية".
لماذا لا يستغلون وقتهم في القراءة أو ممارسة الرياضة أو البحث عن أي نشاط آخر؟ الجواب بسيط بالنسبة لمحمد، فـ"الراس ما بيريحه الا راس الأركيلة، والدماغ المتعب طيلة النهار لا يمكنه تحمّل المزيد من الأعباء في نهاية النهار".
بدوره، يؤكد صاحب أحد المقاهي أن "من يأتي هم من الشباب الّذين تتراوح أعمارهم بين الـ17 و30 عاماً"، لافتاً إلى أن "معدل الأوقات التي يقضونها في المقهى هي بين ساعتين وثلاث ساعات وأكثر ما يتم شراؤه هو الأركيلة".
فما الأسباب الاجتماعية وراء هذه الظاهرة التي تتنامى مع الوقت، والتي باتت جزءًا من العادات الاجتماعية في لبنان؟ وهل من تأثير لها على المجتمع اللبناني عموماً؟
في هذا السياق، يرى مدير مركز الدراسات الاجتماعية والتربوية في بيروت الدكتور طلال عتريسي، في حديث مع "النشرة"، أن "ظاهرة المقاهي كانت معروفة ومتواجدة في لبنان في الماضي ولكن بشكل محدود وكانت أوقات الذهاب اليها محدودة كما ان روادها كانوا معروفون"، لافتاً إلى أنه "في الغرب وفي المدن الكبيرة خصوصاً، للمقاهي وظيفة مختلفة، وهي تناول الطعام في ظل سرعة نمط الحياة، وعدم القدرة على الذهاب إلى المنزل لتناول الطعام، اضافة إلى أن معظم اللقاءات والزيارات تحدث في المقاهي".
من هنا، يعتبر عتريسي أن "انتشار المقاهي في لبنان دليل على تحوّل في العادات وأنماط السلوك، أي اننا بتنا لا نلتقي إلى فيها، وأصبحت بيوتنا مقفلة على عكس ما كان في السابق، اضافة للتحول في العادات الغذائية حيث نرتاد المقاهي لتناول الطعام وليس في المنزل ونعتمد على الوجبات السريعة"، لافتاً إلى أن "هذا التحول يؤثر على الثقافة وطريقة التفكير في المجتمع، اضافة إلى هدر الوقت في أمور غير منتجة".
وإذ يؤكد أن "السلبيّة الكبرى في هذا السياق تكمن في السماح بتقديم النراجيل دون رقابة على العمر مثلاً"، يشير إلى أنه "في الماضي كانت النارجيلة فقط تقدّم بعد العمل اما اليوم فباتت متاحة في أي وقت وبتناول كل الأعمار"، ويضيف "المشكلة ليست صحيّة فقط، إذ انتاج هؤلاء الشباب بات صفراً وبالتالي فإن مستقبل الانتاج صفر أيضا، والمجتمعات القويّة هي التي تعتمد على الشباب، فكيف هي حال مجتمعاتنا وهؤلاء لا يقدمون الانتاج المطلوب منهم؟".
في الخلاصة، نجد أن ثروة لبنان الشبابية إما ضاعت في الاغتراب، أو في المقاهي التي باتت جزءًا من العادات الطبيعية لأي لبناني. فأي مستقبل سيكون عليه هذا الوطن وشبابه تائهون في المقاهي؟