لا تبدو حظوظ إقرار قانون جديد للانتخابات مرتفعة، بل تبدو حتى الآن شِبه معدومة، على رغم كلّ الجدل الذي يسود صفحات الإعلام.
فعدا العُقَد الداخلية الكثيرة، ثمّة سؤال أساسي وجوهري: ما هي الوظيفة الداخلية والإقليمية للمجلس المقبل، أو بتعبير أدقّ لكلّ المجالس النيابية لثلاثين سنة الى الأمام في حال إقرار قانون جديد. ما يعني أنّ المجلس النيابي الجديد لا بدّ وأن يتوافق مع صورة توازنات المنطقة، ما يعني بالتالي وجوب الانتظار بعض الوقت، قبل رسمِ الصورة الإقليمية.
ولأنّ الانتخابات يجب أن تحصل لئلّا يؤدّي ذلك الى مزيد من اهتراء الآلية الديموقراطية التي من المفترض أن تتميَّز بها بلادنا، لا بدّ من حصول الانتخابات وفق القانون الحالي ولو مع بعض التعديلات البسيطة والتي تهدف الى منحِ المخارج للقوى السياسية أمام جماهيرها.
وهكذا شكّلت المجالس النيابية منذ العام 1992 وحتى العام 2000 حالاً تجانسية مع المرحلة السورية في لبنان. ولم يكن من المصادفة أن يشهد مجلس العام ألفين بدايةَ تلوين سياسي انعكاساً للتحضيرات التي كانت قد بدأت بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد تمهيداً لمرحلة جديدة.
في العام 2005 أُنتج مجلس نيابي وظيفتُه المواجهة وترتيب مرحلة ما بعد سوريا في لبنان. وفي النهاية وإثر أحداث 7 أيار، أُعيدَ اعتماد قانون الستّين ليَنتج منه مجلس نيابي مهمّتُه رعاية توازنٍ داخلي دقيق بعد التأكّد من فشلِ الرهان على إمكان تحقيق انتصار فريق على آخر.
وما كان ممكناً عام 2013 بإقرار التمديد لأنّ الحرب في سوريا كانت لا تزال في أوجها، ما يستوجب انتظار حسمِها وإبقاءَ لبنان في إطار التوازن الدقيق، لم يعُد مسموحاً اليوم خشيةَ قتلِ فكرة تداولِ السلطة وإجراء الانتخابات، ولو صورياً، كون المنطقة كلّها ستذهب لاحقاً في هذا الاتجاه. وصحيح أنّ الشرق الاوسط يدخل برمّته في مرحلة جديدة بدءاً من سوريا، لكنّ الصورة لا تزال تحتاج الى توضيح أكثر، والتوازنات الجديدة تحتاج الى كثير من التدقيق والتعديل.
ومعه لن يخاطر أيّ مِن الفريقين الأساسيين المتخاصمَين في لبنان بالذهاب نحو قانون جديد، إلّا إذا كان لمصلحة كلّ واحد منهما الكاملة، وإلّا فلا ضَير من الانتظار بعض الوقت. إذ بالنسبة الى الفريق الشيعي لا مانع من القانون الحالي إذا لم تكن النسبية الكاملة هي المعتمدة.
وبالنسبة الى فريق «المستقبل»، فإنّ القانون الحالي على رغم بعض القلق نتيجة الضعف الذي أصابه يبقى أفضلَ الممكن إذا كان القانون المختلط الذي يقترحه هو صعب المنال، ولننتظر اتّضاحَ الصورة الإقليمية مع التسويات المطروحة.
صحيح أنّ الحرب في سوريا بمعناها العسكري الشامل شارفَت على الانتهاء، وهو ما عَنته روسيا بالإعلان عن سحبِ جزءٍ من قواتها القتالية، لكنّ المعادلة السياسية لا تزال غيرَ واضحة.
فأين هي حدود الدور الروسي الجديد في سوريا والمنطقة؟ وهل سترثُ موسكو النفوذ الأوروبي؟ أم أنّها ستكون وكيلاً عاماً لواشنطن في المنطقة؟ أم أنّ دورها بات في حكمِ الأمر الواقع؟ وكيف سيكون الدور الأميركي مستقبلاً؟
والسؤال الأخير ربّما هو بيت القصيد. صحيح أنّ دونالد ترامب التزَم سياسة تحالفية وثيقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وصحيح أنّ ترامب يضع خلف ظهره «ذرائع» حماية «الديموقراطيات» التي كان يتمسّك بها كلّ أسلافه، وصحيح أيضاً أنه يفضّل الدور الروسي على الأوروبي، وأنه يتفاهم أكثر مع الأنظمة القوية القائمة على رجال سلطة أقوياء في الشرق الأوسط، مِثل الرئيس عبد الفتّاح السيسي في مصر، وبوتين في روسيا، وحتى الرئيس رجب طيب أردوغان في تركيا، لكنّ الحقيقة أيضاً أنّ حجم المعارضة داخل الولايات المتحدة الأميركية في وجهه كبير وقويّ، ما يطرح أكثرَ من علامة استفهام.
ويكفي الإشارة مثلاً إلى استمرار وسائل الإعلام الاميركية في معارضتها ترامب، لا بل بشراسةٍ أكبر، إضافةً إلى عدد من مراكز صنعِ القرار الاميركي. وفي حادثة معبّرة، تحدّثَت وسائل الإعلام الاميركية عن تعذّرِ تأمين مشاركة واسعة لفنّانين من الصف الأول في احتفال تنصيب ترامب، فيما تعدّدت أسماء المشاركين في احتفال وداع الرئيس باراك اوباما.
وهو ما يعني: هل سيؤثّر الواقع السياسي الاميركي الداخلي الصعب على فعالية دور واشنطن في الشرق الأوسط؟ وبالتالي هل ستبقى روسيا على مسافتها الحالية من الأفرقاء واصطفافِها المعروف؟ أم أنّها ستلعب دور الحدّ من النفوذ الإيراني من خلال الساحة السورية كما تتمنّى واشنطن؟ مِن هنا سيكون لبنان معنيّاً مباشرةً بالوجه الجديد لسوريا والمعادلة السياسية التي ستنتج منها.
وطالما إنّ النظام البرلماني اللبناني يعني أنّ البنية التحتية له هو المجلس النيابي فلا بدّ من أن ينعكس دوره انسجاماً مع محيطه واستكمالاً للصورة العامة في المنطقة: ما يعني مدى النفوذ الإيراني، حدود الدور التركي، مستقبل النظام السوري وقوّته في المعادلة الجديدة.
صحيح أنّ انتهاء مرحلة المعارك العسكرية الكبرى أعطى مؤشّراً واضحاً للفريق الرابح والفريق الخاسر، لكنّ الترجمة الكاملة تنتظر الصيغة السياسية التي ستنتج من التسوية السلمية والتي ترعاها موسكو مباشرةً.
ربّما لذلك يَستكمل رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع انعطافتَه السياسية ملحّاً على إجراء تفاهم مع «حزب الله» يريده قبل موعد الانتخابات النيابية، فيما الأجواء لا توحي بهذه السرعة.
وربّما لذلك تنكبّ كلّ القوى السياسية على التحضير للانتخابات النيابية وفق القانون الحالي، وهي المدركة أنّ ولادةَ قانون جديد سيُعمل به لثلاثين سنة أو أكثر، لا تزال بحاجة إلى تكريس المعادلة السياسية الجديدة في سوريا، إلّا إذا ارتضى أحد الفريقين الاساسيين الرضوخَ سلفاً لنتائج التوازنات العسكرية على الساحة السورية.