استدارة رجب طيب أردوغان لم تكن ولن تكون كاملة. أعطى فلاديمير بوتين موافقته على إخراج جبهة «النصرة» من حلب، لكنه أصرّ على تقاضي ثمن هذه «المكرمة». الثمن يريده الرئيس التركي في استانة: لا تمثيل لأكراد سورية في مفاوضاتها المرتقبة. كيف تتمّ الصقفة؟ بأن تقطع «النصرة» المسيطرة على نبع الفيجة في وادي بردى الماء عن دمشق ومحيطها لتعطيش ملايينها الستة الى ان يوافق بوتين على تسديد الثمن المطلوب.
مقامرة أردوغان لم تنجح بعد لأنّ الأمر يتطلّب موافقة دمشق، وبوتين ليس صاحب القرار فيها. الكلمة الأخيرة لبشار الأسد، بعد مشاورة حلفائه بطبيعة الحال. هؤلاء جميعاً ما زالوا يتدارسون الوضع بتؤدة. يهمّهم بالتأكيد إنهاء تعطيش أهالي دمشق ومحيطها، لكنهم يحرصون ايضاً على دماء السوريين ما يستوجب تالياً الحرص على استمرار وقف إطلاق النار الذي كانت موسكو وأنقرة قد هندستا إقراره وتنفيذه.
أردوغان يغامر بتفاهم عزيز عليه كان توصّل اليه أخيراً مع بوتين. كما يغامر بالتزام قديم كان عقده مع واشنطن. ذلك انه يلوّح بإلغاء قاعدة انجرليك الأطلسية المترعة بالمقاتلات الأميركية ما لم تتوقف واشنطن عن دعم «قوات سورية الديمقراطية» الكردية بالمال والسلاح والعتاد.
أردوغان لا يريد إحراج إيران التي كان قد تظاهر أخيراً بأنه يتفهّم هواجسها ولن يثابر على إحراجها بإلإصرار على إقصاء حليفها الأثير بشار الأسد. لكنه بمقامرته آنفة الذكر يحرج بغداد التي تتقارب مع دمشق لشعورها بأنهما في حمأة معركة واحدة وبالتالي في مواجهة عدو واحد مدعوم من جهات عدّة.
دمشق تبقى أُولى المحرَجين. فهي حريصة بطبيعة الحال على إنهاء تعطيش ملايينها الستة المستمرّ منذ عشرين يوماً. رئيس «مجموعة العمل في الأمم المتحدة الخاصة بالمساعدة الإنسانية لسورية» يان ايغلاند وصف انقطاع المياه عن ملايين دمشق ومحيطها بأنه «جريمة حرب». لعله أراد أيضاً، بأسلوب غير مباشر حفاظاً على حياد مؤسسته، نفي تهمة مسؤوليتها عن انقطاع المياه بقوله «إنه من الصعب معرفة الجهة المسؤولة عن هذا الوضع».
أنقرة لم تُحسن تنظيم عملية ابتزاز دمشق وموسكو وطهران. فقد كانت أوعزت الى حلفائها في «المعارضة السورية المعتدلة» المقيمين في تركيا بإصدار بيان مفاده ان لا وجود لجبهة «النصرة» في وادي بردى وانّ دمشق هي التي أوعزت الى جيشها بخرق الهدنة وإطلاق القذائف على وحدات «الجيش الحر» الموجودة هناك ما ادّى الى تدمير تجهيزات ضخ المياه على نبع الفيجة. لكن «النصرة» سارعت الى إصدار بيان مضاد أكدت فيه أنها موجودة في وادي بردى وانها مَن قام بقطع المياه عن دمشق!
حَرَجُ دمشق وحلفائها مردّه إلى النتائج المترتبة على شنّ هجوم لتحرير وادي بردى او الامتناع عنه. ذلك انّ شنّ الهجوم قد يؤدي الى تعطيل مفاوضات استانة واستثارة موسكو التي تعلّق عليها آمالاً عريضة. الامتناع عن شنّ الهجوم لتحرير نبع الفيجة قد يؤدّي الى إطالة أمد تعطيش دمشق ومحيطها بل الى ما هو أخطر: تهجير أهالي العاصمة الأمر الذي يطعن صدقية الدولة السورية وهيبتها ويؤذيها سياسياً واقتصادياً.
ما العمل؟
ثمة مساعٍ روسية لتليين موقف كلٍّ من أنقرة ودمشق. لعلّ الروس يضغطون على أنقرة للموافقة على الإيعاز لجبهة «النصرة» بوقف قطع المياه عن دمشق لقاء معاودة إقناع سورية وإيران بضرورة إيجاد حلٍّ لمطلب تركيا عدم تمثيل الأكراد السوريين في مفاوضات استانة. ولعلّ الروس يمارسون ضغطاً موازياً على دمشق وطهران للقبول بمقايضة مطلب عدم تمثيل الأكراد السوريين في مفاوضات أستانة بقبول مطلب حلفاء أنقرة توفير تمثيل أوسع وبالتالي دور أكبر للمعارضة السورية الموالية لها في المفاوضات.
الى ذلك، ثمة تساؤل عن موقف واشنطن من القضية بكلّ جوانبها وتداعياتها؟
صحيح انّ جون كيري أعلن دعم واشنطن للمفاوضات المرتقبة في استانة، لكن ولاية الرئيس اوباما تنتهي خلال عشرة ايام، فهل سيعتمد دونالد ترامب الموقف نفسه بعد تسلّمه سلطاته الرئاسية في العشرين من الشهر الحالي؟
ثم، أليس أمام موسكو وطهران ودمشق خيار استراتيجي فريد، عظيم المردود، وشديد الإغراء: القبول بمطلب أنقرة عدم تمثيل أكراد سورية في مفاوضات أستانة ودعم جهودها الرامية الى منع أكراد تركيا وسورية والعراق من إقامة دولة لهم على حساب تلك الدول لقاء قبول أنقرة بإلغاء قاعدة انجرليك في أراضيها ما يعني إقصاء حلف شمال الأطلسي وأوروبا وأميركا عن منطقة غرب آسيا برمّتها؟
كلّ هذه الاحتمالات والمقايضات واردة لأنّ الصراعات الإقليمية محتدمة في كلّ ميادين القتال، وكذلك المساومات في الكواليس الديبلوماسية. لكن لا نتائج متوقعة على الأرجح قبل ان يضطلع الرئيس الأميركي الجديد بسلطاته الدستورية والسياسية.