كُتِب الكثير عن حملة "سكر خطك" التي نظّمها بعض ناشطي المجتمع المدني يوم الأحد احتجاجًا على غلاء الأسعار في قطاع الاتصالات في لبنان مقارنةً مع جميع دول العالم، وعن نجاحها في تحقيق خرقٍ ما من خلال الأرقام المعبّرة التي سجّلتها، والتي كبّدت الشركات المعنيّة خسائر جمّة.
ولكن، بموازاة ذلك، عاد خطاب "المؤامرة"، الذي رافق تحرّكات المجتمع المدني في صيف العام 2015 احتجاجاً على أزمة النفايات، إلى الواجهة من جديد، ليخرج من الشعب لبنانيون، يفترض أنّ الغلاء يطالهم كما يطال غيرهم، ليسيّسوا الحملة "المريبة" على حدّ وصفهم، والتي تستهدف، في توقيتٍ "غير بريء"، فريقًا سياسياً بعينه!
أين المؤامرة؟
حين أطلق عددٌ من اللبنانيين حملة "سكّر خطك"، لم يتوقعوا ربما أن تكون الاستجابة العملية لندائهم واسعة، وإن كان جميع اللبنانيين من دون استثناء يتساوون في دفع فاتورة "الغلاء" الباهظة في قطاع الاتصالات. ولكن، ولأننا وصلنا إلى زمن بات فيه التخلّي عن الهاتف، ولو لساعاتٍ معدودة، عملية انتحارية بكلّ ما للكلمة من معنى، كان احتمال الفشل في تحقيق الحملة لأهدافها واردًا، خصوصًا إذا لجأ اللبنانيون لمنطق "شو وقفت عليّ" المفضّل لديهم لتبرير عدم انخراطهم في أيّ حملاتٍ اجتماعية تعنيهم، متّكلين على غيرهم في إيصال صوتهم بكلّ بساطة.
إلا أنّ "المفاجأة" التي لم يتخيّلها ربما أحدٌ من القيّمين على الحملة هي أن "تُسيَّس" كما حصل، فتوضَع في خانة استهداف فريقٍ سياسي لآخر يعارضه، وتحديداً "حزب الله" لـ"تيار المستقبل" الذي ينتسب إليه وزير الاتصالات الجديد جمال الجراح، علمًا أنّ كليهما "شريكان" في الحكومة نفسها، ويفترض أنّهما يحرصان عليها بالقدر نفسه، وهو ما تؤكده مواقف وتصريحات المسؤولين والقياديين في الحزبين المذكورين منذ ما قبل تشكيل الحكومة وحتى اليوم.
وعلى الرغم من أنّ القيّمين على الحملة أصرّوا على أنّهم لا يستهدفون شخص وزير الاتصالات الجديد من قريب أو من بعيد، باعتبار أنّ الرجل لم يُعطَ "الفرصة" بعد لفعل شيء، وهو الذي لم يصل لمركزه إلا قبل أسبوعين، إلا أنّ "المفاجأة الأكبر" تمثّلت بخروج بعض الشباب اللبنانيين، ولا سيما منهم المنخرطين في "تيار المستقبل" أو المقرّبين منه، ليطلقوا حملة مضادة بعنوان "مش رح سكر خطي"، رفضًا لما وصفوه بـ"المؤامرة" على الوزير، متناسين أنّهم، شأنهم شأن جميع اللبنانيين، "ضحايا" لـ"مؤامرة أكبر" مستمرّة منذ سنوات طويلة، ومتجاهلين أنّهم بمشاركتهم بحملات من هذا النوع يمكن أن "يحفّزوا" الوزير الجديد، ومعه العهد بأكمله، لتحقيق "الانتصار" الذي عجز عن تحقيقه كلّ أسلافه، الذين كانوا للمفارقة، وبغالبيتهم العُظمى، ينتمون لأطراف سياسية خصمة له...
ماذا يريد اللبنانيون؟
عمومًا، لا يفترض أن يكون خطاب "المؤامرة" الذي لجأ إليه البعض، بدفعٍ واضحٍ من الطبقة السياسية بمختلف تلاوينها وتركيباتها، مستغرَبًا، فهو الخطاب نفسه الذي اعتُمِد في مواجهة منظمات المجتمع المدني التي تحرّكت قبل أقلّ من سنتين في مواجهة كارثة بيئية غير مسبوقة ضربت جميع اللبنانيين من دون استثناء بحجم أزمة النفايات، حتى قبل أن يُعرَف خيرها من شرّها، وما إذا كانت بالفعل قد أتت لتنفيذ أجندات خارجية، كما قيل، علمًا أنّ هذه التحركات تراجع والأزمة لا تزال تراوح مكانها.
ولا شكّ، انطلاقاً من ذلك، أنّ علامات استفهامٍ كثيرة تُطرَح إزاء ما حصل ويحصل، فما الضير إذا كان "حزب الله" مثلاً، كما اتُهِم، وراء حملة "سكّر خطك"، علمًا أنّ مثل هذا الأمر لا يفترض أن يكون "عيبًا" بأيّ شكلٍ من الأشكال؟ وهل يريد البعض أن يظهر الحزب بمظهر الخائف على المواطنين وأموالهم بمواجهة الآخرين الذين يريدون تكريس الستاتيكو الحالي؟ ثمّ، ألا يعاني جميع اللبنانيين من نفس الأزمات الاجتماعيّة، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الحزبية والسياسية؟ لماذا لا يتّحدون إذاً على مشروع واحد أقله من الناحية الاجتماعية لتحقيق مصالحهم؟ ولو فرضنا أنّ البعض رأى في الأمر مؤامرة على فريقه السياسي، ألم يكن الأنسب له أن يُحبِط هذه المؤامرة بمشاركته فيها وتصويبه لبوصلتها بما يخدم مصالح الشعب بكلّ فئاته؟!
وإذا كان "توجّس" اللبنانيين من المجتمع المدني مشروعًا، خصوصًا بعدما أثبتت الكثير من التجارب أنه ليس أفضل بكثير من الطبقة السياسية نفسها، بل أنّ هناك من يحرّكه أيضًا في الكثير من الأحيان، فإنّ ما لا يمكن أن يكون مشروعًا ولا مفهومًا ولا مبرّرًا أن لا يتّحدوا على الحدّ الأدنى ممّا يفترض أنّها "حقوقهم المدنية المشروعة"، التي، إن اتفقت الطبقة السياسية على شيء، فعلى تهميشها بكلّ بساطة. ولعلّ "الخلاصة الطبيعية" التي يمكن أن يخرج بها البعض من كلّ ما سبق هي أنّ اللبنانيين مرتاحون لهذه الطبقة السياسية، وهم مصرّون على الرضوخ والخنوع لها بكلّ الأحوال، ولا يسعون أبدًا نحو "التغيير"، وإن جاهروا بخلاف ذلك ليلاً نهاراً، لأنّ مجرّد "الاعتراض" على الأحوال المعيشية السيئة على طريقة "النق"، التي يتقنها اللبناني، لا يكفي متى أتى من دون أيّ ترجمة عملية واحدة موحّدة له، وهنا بيت القصيد...
أين المشكلة؟
قد يقول قائل أنّ "التشكيك" بنوايا أيّ حملة مدنية تُطلَق هنا أو هناك واجبٌ على اللبنانيين، بالنظر إلى التجارب السابقة، وقد يقول آخر أنّ لا حملة "بريئة" على الإطلاق، أياً كانت عناوينها المطلبية جذابة ومغرية، كما قد يلجأ غيرهما إلى الحديث عن "أولويات"، والتساؤل عن "خلفيات" وما إلى ذلك.
كلّ ذلك صحيح، ولكنّ الأصحّ منه أنّ الرضوخ لهذا المنطق لا يوصل إلا إلى تكريسالطبقة السياسية "منتصرة دومًا"، بل قد يوصل البعض إلى المجاهرة بأنّ المشكلة الحقيقية في لبنان تكمن في شعبه قبل طبقته السياسية، وهنا الأزمة الكبرى!