تأجج الوضع السياسي في العراق هذه الأيام على خلفية المشروع الذي يحاول تسويقه قادة الائتلاف الوطني كقاسم مشترك لجمع الأطراف المتنازعة. ويبدو أن العراب السيد عمار الحكيم بذل جهداً كبيراً في وضع أطر هذا المشروع وسياقاته بعد أن انتقل بين هذا القطر وذاك مستعيناً بآليات تعجز عنها بقية المكونات الإيدولوجية التي يتشكل منها الإئتلاف كالدعوة والصدريين. وكما يقال بأن المرجع الكبير السيستاني رفض استقبال مسوقيه.
والظاهر أن فحوى المشروع هو ضمّ القوى المعارضة للنظام العراقي، ومعظمهم هم بقايا البعث (أكثر من عشرة فصائل)، فضلاً عن أطراف طائفية ثم توجهات قومية، وذلك كاستجابة لما طالبتهم به الدول الحاضنة لهم في أهمية العمل في الداخل أكثر من عملهم في الخارج. وهي تجربة مهمة مارستها «الساندنيستا» في نيكاراغوا وتمكنت من أن تصل الى الحكم بعد عقدين من الزمن، وبطريق سلمي مما أذهل الأميركيين والعالم الغربي.
الدول العربية المجاورة، ومعها تركيا، ترى بأهمية إعادة تلك التجربة اللاتينية في العراق، لما يتميز به الوضع العراقي من استحالة عودة نظام المخابرات (زوار الليل) لمؤسساته. فهل يتمكن الائتلاف الوطني بقيادة الحكيم، حفيد المرحوم المرجع الكبير، من أن يحقق ما كان يأمل فيه جده في الستينيات من القرن الماضي؟ يبدو أن الشعب العراقي بغزارة الدماء التي سفكت من قبل النظام البعثي 1968-2003 يرى أنه لمن الاستحالة أن يتم التصالح مع هكذا حزب ما لم يتم تسوية العلاقة بين الجاني (حزب البعث) والضحية (الشعب العراقي) والعدالة.
أولاً، من الصعوبة تصور حل (أي حل) من دون عدالة. والعدالة إما أن تُحققها هيئة دولية كما هي «لجنة الحقيقة والمصالحة» في أفريقيا، أو محكمة يوغسلافيا، أو رواندا، أو بقية المحاكم المشكلة في امريكا اللاتينية، أو أن يتم الأمر من خلال محكمة وطنية عراقية,
وليس هنالك خيار آخر مهما حاول المتفائلون أن يمارسوا تفاؤلهم في هذه القضية. فالشعوب لا تنسى ضحاياها أبداً حتى بعد عشرات القرون. فعدد ضحايا النظام البعثي هو أكثر من مليوني ضحية (لم يتم توثيق إلا أقل من نصف العشر منها)، وهذا معناه بأنه لمن المستحيل أن تتبنى الأمر محكمة دولية بسبب غياب الوثائق.
أما خيار محكمة عراقية، فهو أمر واقعي، ولكنه صعب جدا، لأنه يلزم كلي الطرفين، الجاني والضحية، أن يتحملا الآلام من جراء عمق الجروح. ولنتخذ مثال محكمة جنوب افريقيا باعتبارها المعجزة التي أذهلت العالم في نجاحها، ولنحاول تطبيقه على الوضع العراقي. أولا: تلك المحكمة مستقلة تماماً عن السلطة، ثانيا خطة المحكمة هو جمع الضحية والجاني وجها لوجه ليعترف المجرم بجرمه، وينتظر من الضحية أن يقرر فيما إذا كان يقبل عذره مع تعويضات أو يرسله الى المحكمة الجزائية أو الدولية. وقد تم حل 19 ألف قضية من خلال ذلك، وبقيت 40 ألف قضية تنتظر الحل.
الأمر الثاني المهم جداً، هو أن نلسون مانديلا في اليوم الأول لإطلاق سراحه من السجن دعا الى مؤتمر وطني جلس فيه كل قادة التحرير (ANC) وقادة «السلطة البيضاء» ثم تقدم من رئيس النظام فريديريك دي كليرك الذي سجنه 27 سنة، وقال له بالحرف الواحد وبكل شجاعة بعد أن صافحه: «أنت شريك لي في عملية السلام». ببساطة، عفا الرئيس الجديد مانديلا عن جلاديه كلهم (بالسمة الشخصية)، ولم يفكر بموضوع الانتقام أبدا بل فكر في مستقبل شعبه.
فهل يمكن إعادة التجربة في العراق؟ ربما يصلح الأمر بسبب حب وسماحة العراقي بعضه للبعض الآخر. ولكن يجب ان يعترف البعث بجرائمه واحدة واحدة، ثم طلب المغفرة من كل ضحية. فالعدالة تعني أن يقال للجاني: أنت مجرم. أما نوعية العقوبة فشيء آخر.
وبالتالي، لا يمكن إتمام هذا الأمر في العراق إلا بعد أن تتشكل تلك المحكمة بعيدة عن السلطة، وأن يقوم بها عقلاء الأمة من دينيين وسياسيين ومثقفين وجامعيين ومجتمع مدني، وهذه الشرائح هي التي أدارت محكمة أفريقيا الجنوبية.
فهل يمتلك العراقي صبر وشجاعة مانديلا من أجل تحقيق عراق سلام؟