لعلّ أكثر ما خيَّب أملي خلال تولّي مهمّات وزارة الإعلام في حكومة الرئيس تمّام سلام عدمُ تمكّني، رغم الجهد الحثيث الذي بذلتُه، مِن حمل الحكومة على إقرار المشروع الذي أعددتُه ورفعته في 31 آذار 2016 إلى مجلس الوزراء بغية دعم الصحافة الورقية.
لم أكن في حاجة إلى إحساس نبوي لأتيقّن عند تولّي وزارة الإعلام أنّ الصحافة الورقية تمرّ في أزمة تتفاقم يوماً بعد يوم بسبب عوامل ظرفية ناتجة من الأزمة الاقتصادية الراهنة في لبنان وبسبب التطور التكنولوجي وظهور ما يسمّى الاعلام الجديد.
وبغية مساعدة الصحافة على تخطّي الأزمة، اتّصلتُ بأصحاب الصحف التي أفصحَت عن أزمتها المالية للوقوف على المتطلبات الدنيا للاستمرار، ثمّ وضعتُ بعد دراسةٍ واقعية للموضوع مشروعاً متكاملاً لدعم الصحافة الورقية ورفعتُه، كما ذكرت، إلى مجلس الوزراء.
كذلك اتّصلت بالمرجعيات السياسية الفاعلة بغيةَ حملِها على تبنّي المشروع الذي أعدَدته لإنقاذ الصحافة. وتقتضي الأمانة أن أعترف بأنّني لاقيتُ تجاوباً لدى الرئيس نبيه برّي والرئيس تمام سلام. لكنّ هذا التجاوب المبدئي لم يُترجَم على ارض الواقع بسبب الشَلل الذي أصابَ عملَ حكومة الرئيس سلام للأسباب السياسية المعروفة.
ذلك أنّني كنت ولا أزال مؤمناً بأنّ الصحافة الورقية، على رغم التحوّلات التكنولوجية، تبقى ضرورةً لا غنى للقارئ والمواطن عنها. فكما أنّ للكتاب مكانةً على الرغم من الإنترنت، كذلك للمقال الورقي، بأسلوبه ولغتِه، تأثيرُه وجَدواه، ولا يزال للصحافة الورقية دورٌ ثقافي وسياسي لا يجوز التخلّي عنه.
إنّ الصحافة مرادفة للحرّيات العامة وللنظام الديموقراطي، وهي واجهة البلد الثقافية. وإنّ العتمة بغيابها ستَسود حياتَنا السياسية. فهل يمكن أن نتصوَّر لبنان بلا صحافة وهو البلد الذي كان رمزاً للنهضة الصحافية في العالم العربي؟
لذلك يجب أن يَرسخ في أذهان المسؤولين أنّ الصحافة تشكّل مرفقاً حيوياً يحتاج اليه المواطن، بحيث يترتّب على الدولة واجبُ حمايته ودعمه، ليتمكّن من أداء دوره في خدمة المجتمع. فكما انّ الدولة تخصّص بعض المناطق المحرومة أو بعضَ القطاعات المنكوبة بمساعدات محسوسة، فكذلك يجب أن تتحمَّل مسؤولياتها في دعم الصحافة الورقية، في اعتبارها إحدى ركائز نظامنا الديموقراطي.
إنّ المشروع الذي أعدَدتُه مستوحى من بعض التشريعات الغربية التي تقدّم مساعدات مباشرة وغير مباشرة لصحافتها المكتوبة. فعلى سبيل المثال بلغَ مجموع المساعدات المباشرة وغير المباشرة التي قدّمتها الدولة الفرنسية إلى الصحافة الورقية في موازنة 2013 نحو سبعمئة مليون يورو، علماً أنّ جريدة «لو موند» وحدها حصلت خلال عام 2012 على نحو 18,6 مليون يورو، في حين حصلت جريدة «لو فيغارو» على 18,2 مليون يورو.
إنّ المشروع الذي طرحتُه يقوم بصورة رئيسة على تخصيص الصحف الصادرة فعلياً اليوم، بمساهمة مالية مقدارُها خمسمئة ليرة لبنانية، عن كلّ عدد يُباع من هذه الصحف يومياً. إنّ هذا الدعم يحفّز الجريدة على زيادة مبيعاتها عن طريق جودة المواد التي تقدّمها للقارئ.
ومن المناسب أن يواكب هذا الدعمَ وضعُ آليةٍ لمراقبة رقمِ مبيعات الصحف الورقية، ويمكن لوزارة الإعلام ان تتولّى ذلك. وتَجدر الإشارة إلى أنّ دراسة أوّلية تُبيّن أنّ كلفة هذا الدعم هي في حدود عشرة ملايين دولار اميركي في السنة، وهو مبلغ زهيد قياساً على المبالغ التي تقدّمها الدولة لسائر القطاعات.
وإلى جانب هذا الدعم المباشر، من واجب الدولة السعيُ الى تأمين قروض طويلة الأجل بفوائد مخفّضة للمؤسسات الصحافية من خلال آلية يتبنّاها مصرف لبنان، على غرار ما اعتُمد في القروض السكنية الممنوحة لمشتري الشقَق السكنية من المصارف اللبنانية بدعم مصرف لبنان.
ويَشمل المشروع الذي أعددتُه سلسلةَ إجراءات وحوافز أخرى من شأنها مساعدة المؤسسات الصحافية، كإعادة جدولة ديونِها لدى المصارف وإعفائها من بعض الرسوم المتعلقة بما تستورد لحاجات إصدار مطبوعاتها، وسوى ذلك من تدابير تساعد الصحافة على تخَطي الأزمة المالية التي تعاني منها.
ويمكن أن يتمّ دعمُ الصحافة الورقية في مرحلة لاحقة عبر إنشاء صندوق وطني لدعم الصحافة بشكلِ مؤسسة عامة ذات شخصية معنوية مستقلّة تتمتّع بالاستقلال المالي والإداري. غير أنّ تأمين الدعم الفوري المطلوب لإنقاذ الصحافة قبل فوات الأوان لا يحتاج الى مِثل هذا الصندوق، بل يمكن لمجلس الوزراء تأمينه من الموازنة.
إنّني أضع هذا المشروع بين يدَي وزير الإعلام الجديد الأستاذ ملحم رياشي، الذي لمستُ لديه رغبةً صادقة، بدعم الإعلام في لبنان، لافتاً انتباهَه إلى أنّ كلّ وسائل الإعلام من مرئي ومسموع ومواقع إلكترونية تحتاج إلى عناية.
غير أنّ تلك الوسائل يمكن أن تنتظر صدور قانون الإعلام الجديد الذي سينظّمها. أمّا الصحافة الورقية فهي مريض يُحتضَر على فراش الموت، ولا يمكنه الانتظار. فليبادر معاليه فوراً إلى الطلب من الحكومة تقديمَ الدعم المباشر لتلك الصحافة، لكي لا نستفيق يوماً، وقد لا يكون ببعيد، ونحن بلا صحافة ولا صحافيين.