بالرغم من أن الهدنة الحالية في سورية تُعتبر أفضل من سابقاتها، إلا أن الخروقات المتعددة والاتهامات المتبادَلة تدفع إلى الاعتقاد أن الهدنة القسرية التي فرضت نفسها على الأطراف المعنيين، لا يمكن إلا أن تكون ناراً تحت رماد التوتر، والتحسُّب لما سيأتي،والذي تعيشه جميع الأطراف بانتظار مجيء ترامب إلى البيت الأبيض، خصوصاً بعدما أظهرت التقارير أن المخابرات التركية ما زالت تراهن على قلب الوضع الميداني، وأن هناك تخوُّفاً حقيقياً لدى الجيش السوري وحلفائه من أن يُقدم الأتراك على مغامرة ما، تحاول إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل تحرير حلب.
وفي انتظار ترامب ومؤتمر الأستانة، تعيش الأطراف المنخرطة في الحرب السورية أوضاعاً متأرجحة بين الانتظار والقلق، ويبقى الأتراك الأكثر قلقاً، حيث يمكن وصف الحالة التركية الحالية الداخلية والخارجية بأنها تعيش في حالة من عدم اليقين، تدفع إلى القيام بأمور وضدها، وإطلاق تصريحات وعكسها؛ في إشارة واضحة إلى حجم المأزق الذي يعيشه الأتراك اليوم.
يعيش الأتراك تناقضاً بين سياستهم الداخلية والخارجية، فالحاجة إلى التحالفات الداخلية اللازمة لتغيير الدستور في الداخل وفرض الديكتاتوية في الداخل يحتاجان إلى تصعيد الخطاب ضد الرئيس السوري بشار الأسد والدعوة لإسقاطه، والاستمرار في التحذير من الخطر الخارجي، والذي يتآمر على تركيا ويريد أن يحجم الدور التركي (بحسب الرواية الرسمية)، والخطر الداخلي المتمثل بالإرهاب (يوسم الأتراك كلاً من جماعة غولن و"داعش" والأكراد بالإرهاب)، بينما الظروف الخارجية وحاجة تركيا إلى الروس تدفعهم إلى التواضع والقبول بنتائج الحرب التي خاضوها في سورية، وهي التخلّي عن مطلب إسقاط بشار الأسد، والقبول بالذهاب إلى طاولة مفاوضات يتصدّرها ممثلو الحكومة السورية الحالية.
أما على الصعيد الاستراتيجي، فتعيش تركيا أسوأ كوابيسها الإقليمية والدولية منذ الحرب الباردة ولغاية اليوم، فالتحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأميركية تعرّض لخضّات كبيرة في عهد أوباما، خصوصاً بعدما حدد الأميركيون الأكراد بوصفهم الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية، ما يعني تهديداً مباشراً للأمن القومي التركي، وتمّ إفشال كل محاولات أردوغان لحلف "الناتو" بالتدخّل إلى جانبه لإسقاط الأسد وقيام منطقة آمنة، وأخيراً رفض التحالف الدولي (حلف الناتو ضمنًا) استنقاذ الأتراك في معركة الباب، التي كبّد فيها "داعش" الأتراك خسائر كبيرة، إلى أن قام الروس بتغطية الجيش التركي جوياً في تلك المعركة التي لم تنتهِ بعد.
يحتاج أردوغان في هذه الفترة الفاصلة إلى أن يُقنع ترامب بأن الأتراك ما زالوا قادرين على القيام بـ"وظيفة أساسية" في الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، وأنه في حال قرر ترامب استكمال الخطة الأميركية السابقة في سورية، فإن الأتراك وجماعاتهم المسلحة هم الأقدر على تنفيذ هذه المهمة، لذا لا يتخلّى أردوغان عن خطة تسليح تلك المجموعات، بل وتشير التقارير إلى قيام تركيا بإعادة تسليح تلك المجموعات ووعدها بمزيد من الدعم؛ في تناقُض صريح مع التفاهم التركي - الروسي المعقود في وقت سابق.
أما في حال قرر ترامب القطيعة مع استراتيجية أوباما السابقة، والانتقال إلى استراتيجية جديدة قوامهاالتعاون مع الروس في مكافحة الإرهاب، وضمناً التعاون مع الجيشين العراقي والسوري لهزيمة "داعش"، فيريد أردوغان أيضاًأن تكون تركيا حجر زاوية في هذه الاستراتيجية الجديدة، وذلك من خلال التخلي عن دورها السابق كرأس حربة في قتال الروس في سورية، وإبراز الجيش التركي بأنه الأقدر على تلك المهمة، بالإضافة إلى ملاقاة ترامب في منتصف الطريق، أي العداء مع الإيرانيين، وذلك لرغبة ترامب الواضحة، والتي عبّر عنها مراراً بتحجيم الدور الإيراني في المنطقة، وإعادة العقوبات على إيران، والقطيعة مع عهد أوباما الانفتاحي على الإيرانيين، ولقد ظهرت رغبة الأتراك في التصدي لهذه المهمة من خلال الجدال التركي - الإيراني حول شرعية وجود الإيرانيين في سورية، ومطالبة الأتراك بانسحاب حزب الله من سورية.
وفي كلا الحالتين، ومهما تكن أسس الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، سيحاول أردوغان أن يقنع ترامب بالتخلي عن الأكراد بشكل نهائي، والعودة إلى الاستراتيجية الأميركية القديمة لمرحلة ما قبل الحرب السورية، حيث كان التركي "الحليف الاستراتيجي" الطبيعي والدائم للأميركيين، يستطع تنفيذ "المهام" الموكولة إليه، وهو - كان- وما زال يملك الأوراق اللازمة لخدمة الأهداف الأميركية، سواء كانت تتجلى بالاستنزاف في سورية والاستمرار بتأجيج الحرب من خلال المجموعات المسلحة التي يقودها في الداخل السوري، أو بتحجيم إيران وحلفائها، وإقامة التوازن الإقليمي بين كل من الروس والأميركيين، الذي يتّجهون لعقد تفاهمات شاملة، سواء في الشرق الأوسط أو في أوروبا الشرقية.