منذ مُدّة وأنا أرغبُ في كتابةِ مقالٍ عن حال القلَم الصَّحَفيّ في بلادي، ولكنني لو فعلت حينها لَما وُفّقتُ، على ما أعتقد، في مسعاي، ولما وجدتُ توصيفاً أدقّ وأعمقَ لحال كَمٍّ من الصِّحافة والصِّحَافيين والإعلام والإِعلاميين، من التوصيف الذي أتى به الصِّحافي الأستاذ مُنير الخطيب في مقاله الذي حمَل عنوان" الصحافة الجيّدة لا تغيب" (1)، وهو بنظري شهادة حقّ شَهِد بها شاهِدٌ من أهلها، فأقرّ بأنّ "المؤسّسات الإعلامية واجهات سياسيّة للتحريض والشتم وللتفخيم والتعظيم والإنبطاح أمام رجُل الأمن والدّين وسُلطان المال... ومنبرٌ للرشى والإبتزاز... وتكديس الثروات"، وبأنَّ "المعايير الصِّحافيّة سقطت بعدما انسحبت من ساحات الدفاع عن حقوق الإنسان والمُطالبة بمحاسبة الدولة، وأسقطت معها المصداقيّة"، والسبب في ذلك، يعود إلى أنّ الأقلام التي من المفترض بِها أن تُدافع عن الحق وعن الفضيلة وأهلها، خرجت عن طورها ووفائها المِهَني، وفقدت رُشدها الأخلاقي والقيَمي، وتاهت في زواريب النفعيّة، بانيّةً قصورها وأمجادها على أخبار الفضائح وجُثَث الآخرين واجتثاث المُقَدّس.
وفي الواقع، لا يحتاجُ المرء إلى حِنكةٍ ودهاء لكي يشعُر بحال "السقوط التي ضربت أهل المهنة" (2) والوباء النّفعيّ الذي تفشّى في أصحاب الأقلام الصفراء ووسائل الإعلام السوقيّة؛ فهؤلاء بَنَوا قصوراً وكّدّسوا أموالاً حصّلوها بالمواربة والإلتفاف على الحقيقة وامتهان الكذب والنفاق والإحتيال والمواربَة والتدجيل والتمويه والتزلّف والتذَلُّل والتمَلُّق والمُداهنَة والمُلايَنة والمُداراة، والإستزلام لأصحاب المال والنفوذ، وغيرها من الوسائل الرخيصة التي تأتي لهم بالمال ولغيرهم بالبليّة.
الصِّحافةُ في وجهها المُشرِق هي رسالةُ الإنسان للإنسان، وجزء من العمليّة التي تقود إلى تطوّر الإنسان والحياة البشرية. إنّها وسيلَةٌ، من وسائل الإعلام، التي استلّتها عبقرية الإنسان بِعَضَدٍ من الله (3)، ولا مجال إلاّ لتقديرها وتقدير العاملين الأمناء فيها، المُلتزمين بالدفاع عن القيَم الوطنيّة والإجتماعية والأخلاقية وإعلاء شأنِها وتعزيز القيم الثقافيّة والتنموية، والدفع، في الوقت عينه، باتجاه "صحافة جيدة ترتقي إلى المعايير المهنية والاخلاقية الصحيحة لتواكب قضايانا ولنأتمنها على مستقبلنا" (4)، وخالية من مُوَرِّثات السوقيّة النفعيّة. لأنّه عندما تتوقّف الصِّحافة عن أن تكون منبراً للحقيقة وشاهِداً لها، تفقدُ مُبرّر وجودها، ولا تعودُ صِحافَةً، بل مبعث قلق، ويُضحي القلم عندها خطراً يُهدِّدُ البشرية ويفتك بها، وهو بالأذيّةِ أَفتك من الأسلحة وأكثر تهديداً من البارود، ذلك "أن الحرب أولها كلام وآخرها كلام؛ فبالكلامِ تُصنع الحروب، وبالكلام يُصنع السلام.
(1) صدر هذا المقال تحت عنوان "الصحافة الجيدة لا تغيب"، في جريدة النشرة الإلكترونية بتاريخ السبت 7-1-2017
(2) المرجع ذاته.
(3) راجع الكنيسة المارونية والإعلام في وثائق المجمع الماروني، فقرة 1.
(4) م منير الأمين "الصحافة الجيّدة لا تغيب".