تختلف التقويمات في الأوساط السياسية لواقع رئيس الحكومة سعد الحريري العائد إلى السلطة بعد غياب دام أكثر من 6 سنوات، ولكنّ هذه التقويمات تتقاطع على تأكيد اعتداله وضرورة وجوده وجدواه وحيويته في هذه المرحلة بكلّ المعايير السياسية والطائفية والمذهبية والمالية والاقتصادية.
يومَ خرجَ الرئيس الراحل رفيق الحريري، أو أُُُخرِج، من رئاسة الحكومة عام 1998، كان السؤال الذي يواجهه أيّ من السياسيين ورجال الاعمال اللبنانيين الذين يقصدون دول الخليج العربي هو: متى سيعود الحريري الى رئاسة الحكومة؟
فخروج الرجل يومذاك من السلطة احدثَ اضطراباً اقتصاداً ومالياً في البلاد فضلاً عن اضطراب سياسي، توقّفت معه، أو جُمدت، استثمارات عربية وأجنبية ومحلية، كون «رأس المال جبان» ولخوف اصحابها من حصول تدهور في الاوضاع اللبنانية ولا سيّما منها الاقتصادية والمالية لكون الرئيس الراحل كان في نظر كثيرين يشكّل عاملَ ثقة وجذبٍ لهذه الاستثمارات نتيجة شبكةِ علاقاته العربية والدولية الواسعة التي افادت البلد كثيراً في دورتها الاقتصادية والإنمائية والمالية، فضلاً عن استفادته على مستوى موقعه بين رجال الاعمال الكبار في لبنان والمنطقة والعالم.
والمشهد نفسه تكرر مع الخروج الثاني للحريري الأب من رئاسة الحكومة عام 2004، الى ان بلغ الاضطراب والخطر ذروتَه بعد استشهاده في 14 شباط 2005، وما تزال تداعياته مستمرة حتى الآن، وإنْ بدرجات متفاوتة، أو اقلّ حدّة، لأن البلاد بعده دخلت في ازمات واصطفافات سياسية حادة، زادَتها حدّةً الازمات الاقليمية التي تفجّرت تحت عنوان ما سُمّي «الربيع العربي» الذي لم يزهِر إلا تمزيقاً وتخريباً وتدميراً في الدول المعنية، وتلقّى لبنان تداعياتها السلبية بنسَب متنوعة في مختلف المجالات، وإن كان لا يزال محافظاً على تماسكه ولو بالحد الادنى.
ويوم خرج الحريري الإبن، أو أُخرِج، هو الآخر من رئاسة الحكومة بين أواخر 2010 ومطلع 2011 وكان ما سمّيَ «الربيع العربي» في بداياته ضارباً تونس ومصر وليبيا وصولاً الى سوريا في آذار من ذلك العام، تكرّر مشهد الاضطراب اللبناني سياسياً وأمنيا واقتصادياً ومالياً، مع فارق انّ العملة الوطنية،كما في ايام الحريري الأب، ظلّت على سعرها المتداوَل في مقابل العملات الاجنبية، على رغم تراجعِ الاستثمارات والجمود في بعض المجالات الاقتصادية وتضاؤل القدرة الشرائية عند كثير من اللبنانيين، وفي الوقت نفسه سُجّل في دول الخليج جوّ من الوجوم والتساؤل عن مدى استفادة لبنان من خروج الحريري الابن من السلطة، واندفعَ بعض الخليجيين الى مقاطعة بعض الذين خلفوه، او التعاطي معهم بحَذر أو ببرودة.
وعلى رغم اختلاف الظروف بين الامس واليوم، ونسبةً الى التجارب السابقة، يعتقد كثيرون انّ عودة الحريري الإبن الى رئاسة الحكومة ينبغي ان تشكّل «نقلة نوعية» نحو الافضل في اوضاع البلاد على مختلف المستويات، على رغم ما يتردّد عن مشكلات وأزمات يعانيها الرجل على مستوى بعض اعماله في الداخل والخارج، وكذلك على مستوى علاقاته مع بعض الدول الخليجية او فيها، والتي يقال انّ العمل جارٍ عبر اكثر من قناة ومسعى لإعادة تطبيعها.
في الاعتبارات الداخلية كان الترحيب بعودة الحريري مبكراً، حيث برزت لدى افرقاء سياسيين فكرة مفادُها أنّ هناك حاجة لبنانية عموما وإسلامية خصوصا، لوجوده في السلطة، لأنه يساهم بقوّة في كبحِ جماح التشنّج المذهبي الذي تعيشه البلاد، وهذا التشنّج هو الذي استوجب باكراً إطلاقَ الحوار الثنائي بين تيار «المستقبل» وحزب الله في عين التينة برعاية رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي اعتبره يوماً أنه ايضاً حوار بين الرياض وطهران لأنهما تؤيدانه، وهو حوار مستمر حتى الآن وساهم ولا يزال يساهم في إرساء مناخات تهدئة على المستويين المذهبي والسياسي وحتى الطائفي.
وكان البعض قد ناقشَ خلال مرحلة من المراحل في مدى جدوى عودة الحريري من عدمها الى رئاسة الحكومة، في الوقت الذي كان الرئيس تمام سلام، وقبله الرئيس نجيب ميقاتي قد أبحَرا بالسفينة في سلام في ظلّ تلاطمِ الامواج الاقليمية العاتية التي تأثّر بها لبنان، وتمكّنا من تجنّيب البلاد كثيراً من الانزلاقات بالتعاون مع الإرادات والقوى الداخلية المؤثرة، من دون ان يتسبّبا بأيّ شيء يُحرج بيئتهما وشارعَهما، وإن كانا تَعرّضا من حين الى آخر لبعض النقد من مختلف الافرقاء.
ولكنّ الفارق بين الحريري اليوم وبين ميقاتي وسلام في الأمس هو انّ الرجل تمكّن من تأليف حكومته في سرعة قياسية خلال اقلّ من شهرين بفعل تلاقي بعض الإرادات الاقليمة والدولية، وكذلك بفعل قوة الدفع الداخلية التي وفّرها له انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، بعدما تبنّى الحريري وغالبية حلفائه في فريق 14 آذار ترشيحَه، فيما كانت التعقيدات بوجهيها الداخلي والخارجي فرَضت على كلّ من ميقاتي وسلام انتظار ما يقرب من السنة حتى توافرت لكلّ منهما الظروف المناسبة لتأليف حكومته.
فميقاتي الذي ينتهج الوسطية في عمله السياسي انتظر تيار «المستقبل» وحلفاءَه طويلاً ليشاركوا في حكومته، فأبوا وانبروا بعد تأليفها خاليةً منهم ليصفوها بأنّها «حكومة حزب الله»، فضلاً عن مسمّيات أخرى.
أمّا سلام فانتظر 11 شهراً الى ان ولِدت حكومته مشفوعةً بتوافق اقليمي حصل في لحظة سياسية مناسبة، ولكنّ فريق 14 آذار، لم يطلق على هذه الحكومة غيرَ تسمية رئيسها لها بأنّها «حكومة المصلحة الوطنية» وقد سجّل كثير من القوى السياسية لسلام اعتداله وكياستَه في ممارسة المسؤولية وحرصَه على التوافق الوطني لتجنيب البلاد ما امكنَ من الاضطرابات والأزمات السياسية.
ولذلك، يعتقد كثيرون انّ قوة الدفع التي جاء بها الحريري الى رئاسة الحكومة وفي ظروف اكثر انفراجاً على المستوى الداخلي وانحسرت معها حدّة الاصطفافات السياسية، لا تَعفيه من أن ينجز وينفّذ الوعود التي يقطعها والعهد للبنانيين، فهو يَحظى بدعم القوى السياسية الكبرى في البلاد، ويدرك انّه ما كان ليعود الى رئاسة الحكومة لولا تأييدها، فرئيس مجلس النواب نبيه بري كان السبّاق في تأييد عودته وهو يردّد ولا يزال وجوب «دعمه واحتضانه وتقويتِه اذا كان ضعيفا».
وطبيعي لا يقول بري هذا الكلام إلا لإدراكه اهمّيةَ رمزيةِ الحريري في معالجة الأزمة التي تعيشها البلاد من المستوى المذهبي وصولاً الى المستوى الوطني مروراً بالمستويات الطائفية والاقتصادية وغيرها.
وحيوية عودة الحريري الى السلطة ادركَها حزب الله، وتيار «المستقبل» نفسه عندما انخرطا في حوارهما الثنائي، الذي تناوَلها في بعض جلساته مباشرة او جانبياً من زاوية مدى قبول «الحزب» بها في وقتٍ كان كثيرون من «مستقبليين» وغير «مستقبليين» ينسجون ويرسمون ويخططون للوصول الى سدّة رئاسة الحكومة، لاعتقادهم انّ فرَص الحريري غير متاحة، الى ان قال الامين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله كلمتَه الشهيرة مرّات عدة وفي مناسبات عدة خلال الفصل الاخير من السنة المنصرمة من انّ حزب الله «لا يمانع عودةَ الحريري الى رئاسة الحكومة» الامر الذي كرّس مع عوامل اخرى داخلية وخارجية أن يكون عون «الممرّ الإلزامي» لإنجاز الاستحقاق الرئاسي، ليجسّده الحريري لاحقاً بتبنّيه ترشيحَ عون، ومن ثم انتخابه الذي اعقبَه تسمية الحريري رئيساً للحكومة وهلمّ جرّ...
ولذلك يعتقد كثيرون انّ الحريري وفي ضوء الدعم الكبير الذي حمله الى رئاسة الحكومة سيكون امام تحدّي إثبات القدرة على تحمّلِ المسؤولية المطلوبة منه في هذه المرحلة، فإذا لم تنجح العلاقات والمساعي في إعادة تطبيع بعض علاقاته الخارجية عموماً والخليجية خصوصاً، فسيكون عليه ان يثبت من خلال أدائه ومسؤولياته الداخلية أنه رقم صعب في المعادلة الداخلية والخارجية لتعود علاقاته الخارجية الى قوّتها وتأثيرها خصوصاً ان كثيرين يعتقدون أن مثل هذه العلاقات تُطمئن الخارج وخصوصاً دول الخليج الى مستقبل لبنان وتوفر له مزيداً من الدعم. وإذا لم ينجح فسيكون عليه التسليم للمقولة المعلقة على باب السراي الحكومي الكبير: «لو دامت لغيرك لما اتّصلت إليك».