تيقّنوا. ما زلنا في بداية الطريق الوعرة.
أين أذهب؟ بل أين نذهب؟ سؤآل مطروح بصيغة المفرد أو بصيغة الجمع ويكاد يحضر تحت الكثير من الوسائد والهواجس لا في بلاد العرب والمسلمين وحسب، بل في عواصم وبلاد العالم ككل. سبب السؤآل معروف: الإرهاب والضرب العشوائي. يطرق الإرهابيون كلّ الأبواب في العالم، وجعلوا مسألة تعريف الإرهاب أو التفاهم الدولي حوله قضيّة أكثر من معقّدة ولا قيمة لها. تزداد تعقيداً لتصبح وجهة نظر للتباين والشروخ التي تعمّ العالم، وفي آخرها خطب الرئيس الأميركي دوناد ترامب بحماسة لا تخلو من الإستسهال والفجاجة والمخاطرة في مقاربة أخطر ما يواجه العقل المعاصر.
في رحلة متابعة المشاهد بل الحقائق الخطيرة التي تحوق بنا جميعاً، يحقّ لكلّ منّا في هذا المحيط العربي الذي تتوسّع فيه الحرائق وأصناف القتل والتفجير العبثي للتخريب، وفي ظلّ تباطؤ وغموض دولي أن يطرح على نفسه السؤال التالي:
أين أذهب عندما يقرع الإرهاب بابي أو تخوم مدينتي أو وطني؟ أتصوّر أنّ الجواب ، بالرغم من واقعية السؤآل ، لم يعد سؤالاً محتملاً أو خيالياً لطالما هو يطرح في كلّ يوم في سوريا والعراق ولبنان واليمن وتركيا وإيران وفرنسا وأوروبا وأميركا وفي العواصم والمدن الكثيرة الخائفة التي يستهلك أهلوها التفكير في كيفيّة معالجة هذه الظاهرة التي وحّدت البشر حول القلق.
هناك من سيقاتل حتّى الموت سواء أسموه شهيداً أو ضحيّة ومهما كان شكل موته وظروفه لأنّ الحصار يضرب الأمكنة كلّها والمخاطر لا تتعدّى الشعرة بين الموت والحياة. ونعتقد، في هذا المجال ، بأنّ إستغراق الإعلام في إظهار مشاهد العنف والإرهاب والمغالاة فيه، يكاد يفرغ الموت من معانيه وأحزانه لدى بعض الفئات وهو ربّما صار أزهى من الحياة وأبلغ، أو صار، بالمعنى الطقوسي، معادلاً للفرح والسعادة حيث لا دموع ولا آهات ولا صرخات وأوجاع، بل التبريك والشكر لسهولة الإنتقال الى الجنّة الموعودة المحفوفة بالأحلام والثقافة والصور الجميلة.
بصراحة أكاديمية وصلنا الى زمنٍ بحاجة الى أطروحات دكتوراه في علوم النفس والفلسفة والإجتماع لإستيعاب مجانية الموت وشاهد العنف التي بات يألفها الناس. لكنّ القول والكتابة يفترقان قطعاً عن الفعل.
قد نصادف من يقتل نفسه وعائلته قبل أن يداهمه الإرهابيون أو يقع في مباغتهم، وهناك من يستسلم بصلواته الى القدر الذي جعله كما جعل قومه من نصيب الغياب المسالم، وهناك من يقوّي قلبه بالغرب أو بالقوى الخارجية التي لا يمكنها أن تترك لجحافل التكفيريين حبال التخريب على مشارقهم ومغاربهم، فنراهم يتوزّعون على أبواب السفارات بالألوف بحثاً عن إمكانيات الهجرة الى أرصفة الدنيا وأرجائها الواسعة، أو الى أقاربهم الذين بالكاد كانوا يعرفونهم أو يراسلونهم. طبعاً المسألة على إرتباط بالوضع المالي والإجتماعي للسائل، لكنّ السؤال نفسه قد يطرح بحدّة ولجاجة أكثر على الموفورين والنخب العربيّة، والسبب أنّ العبسة والسلوك الغربي المزدري بشكلً عام حيال الكثيرين منّا في العواصم الأوروبية والغربية، بعدما تداخلت الأمور بين المسلمين والغربيين بات العربي أو المسلم بشكلً عام مسكوناً بنتيجة واحدة منذ أن يخطو في مطارات العالم بأنّه شخص إرهابي غير مرغوب فيه ولو كان حاملاً لتأشيرات الدخول وحتى للأموال اللازمة لإقامته في الغرب. لكن ليس الطريق سهلاً ولا معبداً للذهاب الى الغرب.
يعيدني هذا السؤال الى العام 1979 بعد رحيل شاه إيران وقلق الأنظمة العربيّة والممالك أو حيرتها ممّا يحمله المستقبل. نحن اليوم نعيد طرح السؤال نفسه المقيم فينا منذ ذلك التاريخ، لكنّ كمية الفوضى والحروب والخسائر والركام تتجاوز بكثير ما كنّا فيه منذ 38 سنة.
كان العديد من زعماء العرب الكبار الذين كنّا نلتقيهم في العواصم الأوروبية يطرحون السؤال نفسه فيجيبونك: نذهب الى بيروت. وبيروت عاصمة عربية غربية يختلط فيها الغرب بالشرق والإسلام بالمسيحية. وهي بهذا المعنى السياسي جزيرة دولية وملجأ تاريخي عريق متجدد ولو أنّها عاصمة مهددة على الدوام لا يمكنها أن تبقى خطوط تماس بين الشرق والغرب.
يتجذر القلق وينتقل بحثاً عن زعزعة العالم العربي والإسلامي من داخل. وكان يجهد في اختراق مختلف المجتمعات وبمختلف الأساليب لتذكية صراعاتها في المجتمعات العربية تحت عناوين شتى آخرها "صراع الحضارات" ونعاين كثيراً نتائج الأفكار المستوردة القائلة بأن المسيحية قد أغرقت بالمناخ نفسه والدماء عينها قبل أن تحقّق ثورتها الكبرى وتشذّب الميراث الديني ومستلزماته منذ أيام نابليون بونابرت الذي حصّن خطاه العسكرية في التاريخ المعاصر بفكر كبار الفلاسفة من أمثال روسو ومونتسكيو وديديرو وفولتير..الخ، وقعد في فتوحاته فوق ما عرف ب: عصر الأنوار. وهناك من يطالب إذن ثورة مماثلة على الذات والتراث وهي تعد قطعاً بحروب لا نهاية لها ودماء قد لا تعرف النضوب. السبب أنّ الفكر التغييري قابل للتصدير لكنّه غير صالحٍ للتغيير ولا يمكن تحويله الى سلعٍ ثقافية. أين نذهب وقد أصبحت معظم الأمكنة مقفرةً مخيفة؟
تتعدّد الأجوبة كثيراً وتشوبها الفوضى العارمة التي لن ندرك متى يركد ماؤها وتبين ملامح مستقبلها، وأخطر ما فيها وقوعنا في مآزق القرارات الفردية السريعة وهمومها ومسؤولياتها بما يعني أو يؤدّي الى تحلّل الجماعات أوتفكّكها بالمعاني الإجتماعية الجغرافية والديمغرافية والفكرية والحضارية.
ما زلنا في بداية الطريق الوعرة.