بعد أحداث 11 أيلول 2001، وبالتزامن مع الحرب الأميركية على العراق، بدأ الصوت الأميركي يصدح بمشروع استراتيجي هادف إلى إعادة رسم خارطة المنطقة وفق نظرية "الشرق الأوسط الجديد". وراح هذا الصوت يتعالى بالتزامن مع الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز 2006، لكنّ انتصار لبنان أفشل هذا المشروع وأسقطه. إلّا أنّ الولايات المتحدة الأميركية لن تتخلّى عن تحقيقه، فسعت إلى انتهاج وسائل الهندسة الاستراتيجية عبر إعادة تشكيل أنساق جديدة لشعوب المنطقة في لعبة "الربيع العربي"، ليبدو هذا التغيير حقوقياً شرعياً مشفوعاً بالديموقراطية البرّاقة وفق الترسيمة الأميركية لحراكها العالمي. حيث يرتكز هذا الحراك اليوم على المفهوم الأميركي ل"الشرق الأوسط الكبير"، الذي يتجاوز الجغرافيا التاريخية ل"سايكس بيكو" إلى جغرافيا تفتيقية أشمل، تضمّ - إضافةً إلى العالم العربي - إيران وتركيا وباكستان وأفغانستان وجمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز.
عندما فشلت الحرب الإسرائيلية على لبنان، والتي تحمل مشروعاً تصفوياً لحزب الله، باعتباره رأس حركات المقاومة في المنطقة، تمّ إقفال البوابة اللبنانية في وجه مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، مما استدعى الحاجة إلى فتح البوابة السورية وتأسيس ميليشيات إرهابية بمثابة أدوات لتحقيق مشروع التقسيم وتصفية الكيانات المقاوِمة له. هذه الميليشيات الظليّة تتمثّل بالتنظيمات الجذعية "الهيدرا": كالقاعدة وجبهة النصرة وداعش وغيرها من الميليشيات الإيديولوجية الخطرة، والتي كان من المقرّر دخولها مباشرةً إلى لبنان والعراق بعد تمكينها في الجغرافيا السورية. وهذا بالفعل ما ظهرت أماراته التي كانت تنحى منحىً مأزمياً خطيراً، لولا تدارك محور المقاومة لإشكاليات الأزمة السورية وفق استراتيجيات وقائية، منها: التدخل الإستباقي لحزب الله في الجغرافيا السورية، وتظهير حركات مقاومة في سوريا والعراق لمواجهة التنظيمات التكفيرية، وخلق جبهة دولية ممانعة وداعمة لسوريا، ومساندة حراك المقاومة الفلسطينية في فلسطين المحتلة، وتوسيع رقعة سيطرة محور المقاومة كما حدث في البحرين واليمن، ومتابعة زيادة العناصر القووية في التسلّح والتمسّك بالمواقف الصلبة.
بفعل نجاح تجربة حزب الله في سوريا مسانداً جيشها، ومع اتساع مساحة جغرافيا الصراع الميداني بين محور التفتيق الغربي الذي تقوده أميركا وإسرائيل وتتبنّاه تركيا والسعودية وبين محور الترتيق الشرقي الذي تقوده إيرانو-كيانات المقاومة وتتبنّاه روسيا والصين، حدثت سلسلة من عمليات استنساخ حزب الله في الجغرافيات المتوتّرة، فظهرت حركات مقاومة مسلّحة جديدة تقف في وجه التنظيمات التكفيرية المستنسخة عن تنظيم القاعدة، وبدأنا نسمع بحركات مقاومة: كحركة النجباء وألوية الحشد الشعبي وحزب الله العراقي وعصائب أهل الحق وحزب الله السوري وغيرها من الحركات الفاعلة ضمن جغرافيات النار، لقتال داعش والنصرة وعشرات التنظيمات المستنسخة عن تنظيم القاعدة المتعدّد الرؤوس. وهذا إذا دلّ على شيء فإنّه يدلّ على أنّ حزب الله صار نوعاً من "الهيدرا" المقاومة، أي أصبح متعدّد الجذوع والرؤوس، بحيث إذا قُطع له رأس ينبتُ مكانهُ رأسٌ آخر، مما يكفل له التوسّع والتفرّع والامتداد بتسميات مختلفة.
لم يقتصر حراك المقاومة على تأسيس وظهور صور وأشكال وتنظيمات مشابهة ورديفة لها في المنطقة، بل تعدّى الأمر ذلك إلى إيجاد نوع من التنسيق مع الأحزاب والقوى التي تحمل فكر المقاومة، كالجيش العربي السوري في سوريا والجهاد الإسلامي في فلسطين والحوثيين في اليمن وجمعية الوفاق الوطني الإسلامي في البحرين وغيرهما من القوى والجماعات المنضوية في مشروع المقاومة إزاء المشروع الأميريكي الغربي الهادف إلى حماية الهجين الإسرائيلي وتقسيم المنطقة وطمس روح المقاومة فيها. وبذلك قام حزب الله بعملية تشبيك جيوستراتيجي مع الركائز الأساسية الفاعلة في المواجهة، كما أخذ دور قيادة وتوجيه حركات المقاومة في المنطقة، وترشيد وتقنين وتنظيم عملياتها وتحرّكاتها.
إنّ مشروع التقسيم هو عملية فتق جغرافي وتفتيت جيوسياسي وتهديم استراتيجي وإفناء اقتداري وسبات إيديولوجي لدول وشعوب المنطقة، وفي المقابل خاض محور المقاومة عملية رتق جغرافي والتحام جيوسياسي وترميم استراتيجي وإنبعاث اقتداري وإحياء عقائدي. إذن، المنطقة تقف إزاء مشروعين متناقضين تماماً في الرؤيا والمسار والأهداف، وهذا التناقض الحاد والعنيف يصل إلى مستوى الصراع الوجودي، بحيث أنّ المحور الغالب سيغيّر وجه العالم جذرياً، والمحور المنهزم سينكفئ وينحسر نهائياً. لذلك ليس غريباً أنْ نرى حركات محور المقاومة الشرقي تعمل في نفس الجغرافيات التي تعمل فيها أدوات ووسائط محور الاعتداء الغربي، وذلك بهدف رتق كلّ حيّز أو مكان يتعرّض للفتق، ولئم كل مساحة معرّضة للتجزيء، عبر التطهير العسكري والاحتواء الاستراتيجي والتثبيت الميداني وفكّ أحزمة النار المشتعلة عن الحدود الجغرافيّة القابلة للتفكّك والاستهداف التشخيصي لأدوات التقسيم، كلّ ذلك مترافقاً بدينامية سياسية إقليمية ودولية بالتزامن مع الإنجازات العسكرية.
يبدو أنّ مشروع محور المقاومة قد نجح حتى الآونة، وبما إنّ حزب الله يشكّل فيه رأس الحربة، فقد صار واحداً من أهمّ مديري عجلة الصراع في المنطقة، حيث تحوّل من حالة وطنية لبنانية إلى ظاهرة إقليمية بل ودولية تلفتُ أنظار المراقبين الدوليين وأطراف الصراع ومراكز الدراسات والإعلام والصحافة العالمية، وذلك مردّهُ إلى نجاحهِ في مسألة "الإدارة الموقعية" للأزمات، القائمة على فنّ التدخّل التكتيكي المباشر عبر استخدام القدرات العسكرية والعمل التطبيقي لاحتواء الأزمة ثمّ إقلابها على الأعداء، مع مراعاة الأوضاع المرتبطة بها ونتائجها ومآلاتها، وتوظيف تلك الأزمة فيما يخدم وجوده ومصالح حلفائه. أضف إلى ذلك فنّ التدخّل الاستراتيجي القائم على برمجة ومنهجة وضبط وتهديف الصراع الكلّيّ وفق مسار ترابطي تكاملي يستمدّه من التاريخ العقائدي الذي يحدّد حركتهُ وبُنيتهُ، وكذلك توجيه الصراع وتوظيفه فيما يتوافق مع مشروع محور الممانعة، والأهم قدرة هذا الحزب على إدارة واحتواء مختلف حركات المقاومة المتوالدة على شاكلتهِ وصورتِهِ.
إذن، لم يعُد الشرق الأوسط الكبير أو الجديد يرتسم وفق معالم المشروع الأميركي الغربي، بل بات يتشكّل حسب رؤية محور المقاومة الذي أحبط معظم المخططات المرسومة للمنطقة، وذلك بعد تظهير وتفعيل دور حركات المقاومة المستنسخة عن نموذج حزب الله في جغرافيات الصراع. لذلك يبدو جليّاً للمراقب الدقيق أنّ هناك مرحلة من التحديثات والتشكيلات الجديدة التي تطال بُنية التنظيمات المقاوِمة في المنطقة، وبما إنّ حزب الله هو الجذع الرئيسي لكل حركات المقاومة، فسوف يكون أمينه العام السيد حسن نصرالله القائد العام لتمثّلات المقاومة في المنطقة. وقد لعبَ هذا الدور ضمناً ومسبقاً قبل أي تحديث هيكلي وتنظيمي، من خلال مكانتهِ وخطاباتهِ وموقعيّته الجامعة باعتباره سيّد المقاومة، ولِما حقّقهُ من صفات إيحائية وقيادية كأب روحي للمقاومة في المنقطة. وربّما تشهد المرحلة المقبلة تغييرات تنظيمية في مختلف هيكليات حركات المقاومة، بحيث يتمّ اختيار أمين عام آخر لحزب الله يرادف نظراءَهُ من الأمناء العامين لحركات المقاومة في سوريا والعراق واليمن والبحرين وفلسطين، ولما لا مستقبلاً أفغانستان وبعض حركات المقاومة في الخليج حينما تعترّض للسقطة المتوقّعة. وبذلك ينتقل السيد نصر الله من مهمّةالأمانة العامة لحزب الله إلى دور القيادة العامة لحركات المقاومة في الشرق الأوسط. وهذا ما يضمن صياغة هويّة وصلية للمقاومة وبلورة شخصية إقليمية جماعية لمنظومة جهادية موحّدة تحت قيادة واحدة، باعتبار السيد نصر الله القائد العام أو المؤتمن الأعلى على مجلس الأمناء العامّين لحركات المقاومة في المنطقة.
إنّ هذا النسق الجديد الذي تتبلور خلاله منظومات محور المقاومة من شأنهِ أنْ يكرّس إقليماً جغرافياً ضخماً يحكمُهُ فكر ونظام المقاومة، ويقوم على أسس متجانسة لمجتمع جهادي شامل ومتكامل. كما إنّ هذا الإقليم المقاوم المبني على جغرافيات ثقافية وديموغرافية مقاوِمة سيوقف كل عمليات التقسيم، لأنّه يشكّل عملية إلتئام والتحام لا يمكن كسرها وتجزيئها. أضف إلى ذلك أنّ إقليم المقاومة الأكبر سوف يستغرق كل الجغرافيات الرخوة والمتآمرة والمنخرطة في المشروع الأميريكي الغربي، وسوف يكون إقليماً جغرافياً أكثر قوة وقدرة وحجماً من الإقليم الجغرافي لفلسطين الذي يقوم عليه الكيان الإسرائيلي، مما يجعل هذا الأخير عرضةً للانهيار والسقوط بفعل قوة الجذب والطرد الجيوستراتيجية لإقليم المقاومة الممتدّ ظليّاً إلى عمق فلسطين، وبالتالي يتمّ تدمير الأنساق الإيديولوجية والبُنى الاجتماعية والنّظُم الوجودية وفكّ توظيف الارتباط الحيوي للشعب الإسرائيلي مع إقليم الجغرافيا الفلسطينية المغتصبة، ويدخل في حالة من اللايقين وقلق التجزّؤ والتشتّت إزاء الجسم الضخم المتعضّي جغرافياً للمقاومة، والذي سوف يكون إقليماً خاضعاً لمشروطية إيديولوجيّة مقاوِمة، وبالتالي إقليماً ذا حدود عقائدية تجمعهُ جغرافيات ملتئمة ثقافياً وعقائدياً وفكرياً واجتماعياً. وبغض النظر عن التفصيلات الهيكلية، فهذا ما يحدث اليوم فعلاً، إنّه إقليم الشرق المقاوِم الجديد تحت قيادة السيد نصر الله ورعاية إيران.