منذ اليوم الاول لإنشاء الجمهورية التركية عام 1923 على يد مصطفى كمال أتاتورك، جهدت الولايات المتحدة الاميركية لتكون تركيا تحت "رعايتها"، دعمتها سياسيا واقتصاديا نظرا لموقعها المميز، الذي يسمح لها ان تلعب دورا هاما في المعارك الأميركية السوفييتية سابقا، والروسية حاليًّا.
تصل تركيا ما بين القارة الآسيوية والأوروبية، وفيها مضيقين مهمين للغاية، هما البوسفور والدردنيل، وهما يشكلان ارتباط مياه البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود، ولذلك اهمية اقتصادية وعسكرية كبرى جعلاها محط اهتمام الدول القوية. إن هذه المقدمة العامة ضرورية للدخول في وضع تركيا اليوم، فهذه الدولة التي سعت منذ سنوات قليلة للوصول الى "سياسة صفر مشاكل" أصبحت اليوم أرضا خصبة لكل أنواع المشاكل السياسية والأمنية والاقتصادية.
وفي هذا السياق، يرى مصدر مطلع أن سببين اساسيين أوقعا تركيا في الازمة التي تعانيها اليوم، الأول يتعلق بموقفها من احداث سوريا والثاني يتعلق بعلاقتها مع كلّ من الولايات المتحدة الاميركية وروسيا. ويضيف: "اولاً شكّل التعاطي الحاد مع الأزمة السورية من قبل تركيا منعطفا لعلاقتها مع دول الجوار، وتحديدا سوريا والعراق وايران وروسيا، وكاد في مرحلة من المراحل بعد اسقاط الطائرة الروسية من قبل الجيش التركي أن يُشعل الحرب بينها وبين روسيا، ولا زالت القيادة التركية تدفع ثمن تلك الحادثة سياسيا واقتصاديا"، مشيرا الى أن السبب الثاني وهو الأبرز يتعلق بعلاقة تركيا مع أميركا وروسيا. ويقول المصدر: "سعت الولايات المتحدة الأميركية ان تكون تركيا "قاعدة" لها تواجه عبرها "التمدد" الروسي، الا أن الاحداث الاخيرة في المنطقة وتحديدا حادثة الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا غيّرت الكثير في سياسة تركيا الخارجية، فقد ثبت لدى الرئيس التركي رجب طيب اردوغان أن القيادة الاميركية تقف وراء محاولة الانقلاب، وأن روسيا وإيران كانتا الداعم الرئيسي لصموده"، مشيرا الى أن بعد محاولة الانقلاب بدأت تتسع حلقة التقرب من روسيا والابتعاد عن أميركا.
ويلفت المصدر النظر الى أن اقتراب تركيا من روسيا أغضب القيادة الأميركية، فكان الدعم الأميركي للأكراد لقيام دولتهم قرب الحدود التركية، وهنا أجبرت تركيا مرة جديدة على الاقتراب اكثر من الجانب الروسي الذي لم يمانع التدخل العسكري التركي في الشمال السوري وعمل برفقة القيادة السورية على منع استقلال الاكراد، فتلاقت في هذه النقطة المصالح السورية والتركية. ويكشف المصدر أن القيادة التركية مقتنعة ان الغضب الأميركي انعكس ارهابا في الداخل، وتجلى أخيرا في حادثة ملهى رينا ليلة رأس السنة. ويقول: "يعتبر الجانب التركي أن استخبارات اجنبية تقف وراء العملية الارهابية، وهي لأجل ذلك تحدثت عمدا عن وجود أموال في شقة المجرم (150 الف دولار) وهي ارادت بذلك القول أن الدافع لارتكاب الجريمة كان الأموال ومعروف أن دافع عناصر "داعش" ومن لفّ لفيفها لارتكاب الجرائم لم يكن يوما الأموال بل العقيدة". ويضيف: "تتحدث الأوساط التركية عن دور أساسي لاستخبارات أجنبية (دون التحديد المباشر لهوية هؤلاء) في الاحداث الارهابية بتركيا لأن الارهابيين يستغلون ثغرات أمنية لا يعلم بها سوى مختصون، ومعلوم ان الاستخبارات الاميركية لعبت دورا مهما في بناء المنظومة الامنية التركية"، متوقعا بقاء الوضع الامني التركي مأزوما في المرحلة المقبلة بانتظار تبلور الأوضاع في المنطقة، ومعرفة ما ستؤول اليه السياسة الخارجية الاميركية في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
بالاضافة الى علاقة تركيا بأميركا، يعاني الامن التركي من الوهن بعد محاولة الانقلاب الفاشل، بحسب المصدر. ويتابع "ان النسبة الأعظم من مؤيدي فتح الله غولن المطرودين من السلك الامني والعسكري هم من النخبة التي كانت تمسك بزمام الأمن في تركيا"، مشيرا الى أن هذه الخطوة خلقت ثغرات أمنية ضخمة سهّلت وقوع الاعمال الإرهابية.
لم ندخل في هذا التقرير في مختلف ثنايا العلاقات الخارجية لتركيا، فالهدف هو الإضاءة على تدهور الوضع الأمني وعلاقة ذلك بما يجري في المنطقة، خصوصا بعد ازدياد الهمس داخل الأوساط التركية عن دور الاستخبارات الاجنبية بكل التفجيرات الارهابية.