لعل أصحاب «البيوتات السياسية التقليدية» قرروا إراحة الحياة السياسية منها بعد هذا العمر الطويل. لعلهم تعبوا وقرروا التقاعد، لكنهم يخجلون من قول ذلك، فيريدون الخروج من المشهد بوصفهم ضحايا التحالفات السياسية الجديدة. فما يفعلونه اليوم لا يصبّ بغير اتجاه
غالباً ما يدور النائب السابق منصور البون حول نفسه، ويدور ويدور من دون أن يتمكن من حلّ أحجية ما يدور حقيقة في رأسه. كان بداية يربك أصدقاءه وخصومه الذين يفترضون أنه يعلم ما لا يعلمون، وينكبّ على إعداد المفاجآت لهم، قبل أن يتأكدوا أنه سيفاجئ نفسه أولاً وأخيراً.
كانت أبواب الرابية مفتوحة في انتظاره عام 2005، وجلس العماد ميشال عون ينتظره ساعات، رغم تجربة العونيين المخيبة معه في انتخابات 2004 البلدية، قبل أن يراه على شاشة التلفزيون يتصدر اللائحة المناوئة له في كسروان. اكتسح الجنرال الانتخابات، لكنه بقي يبحث عن أسباب تبريرية للبون دون كل الآخرين. وهو رآه يتنصل من الالتزام عام 2009، لكنه لم يرمه بوردة، رغم أن شائعة كشائعة نحر الخواريف بعد تلوينها كان سيكفي الرابية لدك الجبهة المعتدية بشتى القذائف الثقيلة، وهو دعا العونيين إلى التفاهم عبثاً معه بعد أقل من عام في انتخابات جونية البلدية. لكنه البون، ينشغل عن منصة التتويج بجمع الأوسمة التي يمنحها قادة الجيوش الكبرى لجنودهم العائدين أحياء من المعارك الخاسرة. أينما توجد معركة خاسرة، فسيهرع البون إليها. في انتخابات 2016 البلدية الأخيرة طبخ الطبخة التي تضمن خسارة النائب السابق فريد هيكل الخازن ورئيس جمعية الصناعيين السابق نعمة افرام وتعريتهما شعبياً، ثم جلس إلى المائدة وأكل الطنجرة كلها. كان العميد المتقاعد شامل روكز جالساً حول المائدة ينتظر أن يسكب البون في صحني افرام والخازن، وإذا به يدور حول نفسه ويدور ويدور ثم يحمل الطنجرة ويفرغها فوق رأسه. وجد الخازن حبل نجاة يتعلق به، فيما حبل افرام الأخضر مربوط بإحكام في أكثر من مكان. أما البون فراح يتخبط وحده، مقنعاً نفسه بأن كسرها أكثر مع التيار الوطني الحر أفضل من جبرها عبر مبايعتهم في رئاسة اتحاد بلديات كسروان. يمكن فهم إقدام الخازن على خوض المعارك الخاسرة ما دامت بنشعي تحمي ظهره، ويمكن فهم حاجة افرام إلى الإثبات أنه لن يهرب بعد اليوم، أما البون فهو نفسه لا يفهم ما يفعله.
كان يقول إن مناصريه أقرب في السياسة إلى 14 آذار، لكن لم تعد هناك 14 آذار ولا سياسة. كان يقول إن مقتل أي لائحة في كسروان هو التحالف مع القوات اللبنانية، وها هو يقدم أوراق اعتماده منذ أشهر في معراب. ثمة أمور يستحيل فهمها، البون نفسه لا يفهمها. ما دامت أبواب بعبدا – بعد الرابية – لم ولن تقفل في وجهه، وما دام العميد روكز كان وما زال يرى فيه شخصية كسروانية خدومة ومحببة وتستحق أن تكون في المجلس النيابي، وما دام لا إمكانية لبعث عظام اللائحة المناوئة للعونيين في كسروان، فما الذي يواصل القيام به هنا وهناك. ثمة تعبيران كسروانيان قاسيان يستخدمان لوصف ما يقوم به البون، لكن الأمر لا يتعلق البتة بالبون نفسه. فالنائب الكسروانيّ السابق الذي يحافظ على حيثية تتجاوز حيثية القوات والكتائب مجتمعين في أكبر الأقضية من حيث عدد الناخبين الموارنة، كان وما زال يمثل نموذجاً للسياسيّ التقليديّ الذي عجزت الأحزاب بعد عشر سنوات عن تقديم بديل مقنع عنه. علماً أن هؤلاء السياسيين التقليديين من بطرس حرب، إلى البون، مروراً بالعشرات، لم يخلقوا من العدم، فهم كانوا حزبيين قبل ثلاثة وأربعة عقود، لكن لم تلبث أحزابهم أن اندثرت وبقوا هم، كما سيحصل مع عدة نواب حزبيين حاليين ستنتهي أحزابهم، فيما يحافظون هم على مقاعدهم النيابية. المهم أن هؤلاء السياسيين التقليديين يواصلون لعب لعبة البون. وهنا لا بدّ من التوضيح أن ثمة نية في بعبدا لقطع الطريق على تيار المستقبل والنائب وليد جنبلاط لإبرام اتفاقيات انتخابية تتيح لهم الحفاظ على نفوذهم في المناطق المسيحية عبر هؤلاء، من خلال دفع التيار الوطني الحر والقوات إلى احتضان الجديين منهم واستيعابهم بأقل ضرر ممكن. النية الرئاسية لا تزال تصنف في خانة النيات، ولم تصبح قراراً بعد، لكن التعاطي بإيجابية بدل التذاكي والاستهتار يمكن أن يوفر الكثير على كثيرين. علماً أن رئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل حدد حلفاء تياره بثلاثة أول من أمس، مسمياً تيار المستقبل إلى جانب القوات اللبنانية وحزب الله. ولن يمانع التيار بالتالي تلوين لوائحه القوية، سواء في المتن أو الأشرفية أو كسروان وغيرها بمن يطمئنون تيار المستقبل ويسهلون تقديمه التنازلات اللازمة في ملف قانون الانتخابات. والجدير ذكره في هذا السياق أن النائب ميشال المر والنائب سامي الجميّل في مكان، والبون في مكان آخر، وغيرهم يتعلقون عملياً بحبال الهواء، مراهنين على أمور غير منطقية كالتفاهم من تحت الطاولة مع حزبي الطاشناق والقومي وجمع المتمولين لحياكة مؤامرة كبرى. لا مكان اليوم للألاعيب. ثمة عهد قوي مدعم بشبكة تحالفات لم يعد مجدياً التشكيك بجديتها، ولا مجال لمن يريد مواصلة العمل السياسي سوى إبرام اتفاق جدي مع هذا العهد أو استنفار كل قدراته لتسجيل موقف في وجه الجميع. علماً أن تسجيل الموقف يؤدي غرضه في حالة الأحزاب الصغيرة أو تلك العقائدية أما أبناء البيوتات السياسية التقليدية فطبيعة حيثيتهم وحاجتهم الماسة إلى تلبية المطالب اليومية التي تفد إلى منازلهم لا تسمح لهم بالإفراط في المرجلة. كان النائب السابق منصور البون ينقل عن أحد زملائه باستمرار وصفه لأحد النواب السابقين بأنه مثل فيل في متجر كريستال، كيفما تحرك يكسر شيئاً ما. أما الرئيس ميشال عون، فيكرر الحديث عن خطر النمر حين «تزركه» في الزاوية. لكن السياسيين التقليديين أقرب إلى فيل البون منهم إلى نمر عون. علماً أن غالبية هؤلاء كانوا جزءاً من اتفاق 2005 الرباعي، فيما هم لا يزالون حتى اللحظة خارج الاتفاق الذي لم يتضح بعد إن كان ثلاثياً أو رباعياً أو خماسياً.