أعلن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أخيراً موقفاً لا رجوع عنه: لا انتخابات نيابية وفق قانون الانتخاب للعام 2008 المعروف بقانون «الستين» ولا تمديد لمجلس النواب. ثم أكّد الرئيس عون موقفه مجدداً في تصريح الى صحيفة «الأخبار»: «لن أخرق خطاب القَسَم»، داعياً القوى السياسية الى «عدم تضييع الوقت، والذهاب نحو إعداد قانون جديد يصحّح التمثيل الشعبي لجميع اللبنانيين»، ومؤكداً انه «مع النسبية المطلقة».

أدركت القوى السياسية انّ الرئيس لا يمزح ولا يهوّل، وانه لن يتردّد في استخدام صلاحياته الدستورية في سبيل تحقيق غاياته السياسية. كيف؟

بالامتناع عن توقيع مرسوم تعيين أعضاء هيئة الإشراف على الانتخابات وتوفير الاعتمادات المالية اللازمة لها، كما بالامتناع عن توقيع مرسوم دعوة الهيئات الانتخابية في المهلة المحددة قانوناً لانتخاب اعضاء مجلس النواب.

أدركت القوى السياسية أيضاً انّ عدم إجراء الانتخابات يؤدي بالتأكيد الى فراغ تشريعي وسياسي، فضاعفت جهودها التفاوضية من أجل التوصل الى توافق حول قانون جديد للانتخاب يكون مقبولاً من معظم القوى السياسية. قولُ الرئيس عون إنه «مع النسبية المطلقة» ضيّق هامش التوافق أمام القوى السياسية التقليدية المختلفة، ذلك انّ لكلٍّ منها مقاييس لقانون انتخاب يخدم مصالحها وأغراضها المتباينة.

ما المخرج؟

تحاول القوى السياسية الرئيسية تدوير الزوايا بأن تتفاهم على انموذجٍ لقانون انتخاب يقوم على التوفيق بين نظام التمثيل الأكثري ونظام التمثيل النسبي في آن. لكن، حتى لو توصّلت القوى السياسية المتصارعة إلى تسوية وسطية في هذا المجال، فإنّ ذلك لا يحظى بالضرورة بموافقة الرئيس عون وحلفائه السياسيين، ولا سيما أولئك الذين يجارونه في تفضيل النسبية الكاملة.

مع ذلك، من الممكن إزاء مخاطر الفراغ التشريعي والسياسي الناجم عن عدم اجراء الانتخابات أن يتوصل زعماء الكتل السياسية المتصارعة الى تسوية قوامها اعتماد قانونٍ للانتخابات على الأسس الآتية:

انتخاب 64 نائباً على أساس نظام التمثيل الأكثري و 64 نائباً على أساس نظام التمثيل النسبي وفق التوزيع الطائفي المعمول به للمقاعد النيابية.

يُنتخب نواب النظام الأكثري الــ 64 في الدوائر الانتخابية الحالية، وذلك على أساس ان يكون لكلّ ناخب صوت واحد او صوت جمعي أي التصويت لأكثر من مرشح واحد ، ويُنتخب نواب النظام النسبي الـ 64 بالتصويت للوائح مرشحين حزبية او ائتلافية ببرامج سياسية تتنافس في مجمل البلاد كدائرة وطنية واحدة.

يجري تضمين قانون الانتخاب الجديد بنداً يقضي بتمديد ولاية مجلس النواب الحالي «تمديداً تقنياً» على أن لا يزيد عن تسعة أشهر بغية استكمال الآليات والمتطلبات اللازمة لإجراء الانتخابات وفق أحكامه.

يشكو هذا الانموذج الانتخابي المختلط من ثغرات وتحفظات متعددة أهمها ثلاثة:

.1 معارضة عدد كبير من القوى السياسية والنواب للاستمرار في اعتماد نظام التمثيل الاكثري الذي لا يؤمّن تمثيلاً حقيقياً او عادلاً للأقليات السياسية والأقليات المذهبية.

2. التفاوت الكبير المحتمل في عدد الأصوات التي ينالها المرشحون الفائزون وفق النظامين الأكثري والنسبي، بسبب التفاوت بين عدد الناخبين في الدوائر الصغيرة وعدد الناخبين في الدائرة الوطنية الواحدة أو الدوائر الموسّعة الأمر الذي يتعارض مع المادة 7 من الدستور التي تنص على ان «كلاً من اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحمّلون الفرائض والواجبات العامة دون ما فرق بينهم».

3 . مخالفة المادة 27 من الدستور التي تنص على أن «عضو مجلس النواب يمثل الأمة جمعاء»، اذ كيف يمكن لنائب منتخب بحسب النظام الأكثري في دائرة انتخابية صغيرة ذات عدد محدود من الناخبين أن «يمثل الأمة جمعاء»؟

غير ان الاعتراض الاكبر والأوزن يتمثّل في موقف الرئيس عون المتمسك بعدم جواز مخالفة قانون الانتخاب الجديد لمواد الدستور، لا سيما المواد التي مضت عشرات السنين على إقرارها من دون أن تنفذ كالمادة 22 مثلاً التي تنصّ على انه «مع انتخاب اول مجلس نواب على اساس وطني لاطائفي يُستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية».

هذا الاعتراض الوازن الصادر عن رئيس الجمهورية الحريص على تطبيق أحكام الدستور، وبالتالي عدم خرق خطاب القَسَم المبني على المادة 49 من الدستور، قد يُضطَر القوى السياسية الكبرى، متذرّعةً بإرادة أكثرية اللبنانيين المؤيدين للنسبية بحسب مؤسسات استطلاع الرأي الأكثر صدقية الى التسليم باعتماد قانونٍ للانتخابات يقوم على اساس النسبية الكاملة في دائرة وطنية واحدة الأمر الذي يؤمّن صحة التمثيل الشعبي وعدالته.

الى ذلك، اذا ما أبدت القوى السياسية تجاوباً مع الرئيس عون وأكثرية اللبنانيين في اعتماد النسبية في إطار الحرص على تطبيق أحكام الدستور، فإنّ فرصة تاريخية تكون قد سنحت وجديرة بأن يغتنمها رئيس البلاد الذي لا ينفك يعلن تمسكه بأحكام الدستور روحاً ونصاً للضغط على مختلف القوى السياسية بغية إقناعها، بعد قبولها الانموذج الانتخابي المختلط، المعروض آنفاً، بزيادة عدد نواب البرلمان الى 152، يُنتخب 128 منهم على أساس النظام النسبي خارج القيد الطائفي، ويُنتخب القسم الآخر 22 نائباً على أساس النظام الأكثري وفق التوزيع الطائفي على أن يقوم المجلس النيابي الجديد، بالتزامن مع تشريعه القوانين اللازمة لوضع المادة 22 من الدستور قيد التنفيذ، بتعديل أحكام قانون الانتخاب النافذ على نحوٍ يصبح النواب الـ 128 المنتخبون على اساس النظام النسبي وخارج القيد الطائفي نواةَ المجلس النيابي الوطني اللاطائفي، ويصبح النواب الـ 22 المنتخبون على أساس النظام الاكثري وفق التوزيع الطائفي للمقاعد النيابية نواةَ مجلس الشيوخ المختص بتمثيل العائلات الروحية الطوائف .

ادعو الرئيس ميشال عون، القائد الوطني المتميّز بازدرائه عقلية أهل النظام الطائفي المركانتيلي الفاسد، الى التقدم بصيغةٍ قانونيةٍ مميزة لقانونِ انتخاب على أساس النسبية يساعد على انتخاب مجلس نيابي قادر على القيام بالمهمة الجلل، وهي تطبيق أحكام الدستور، ولاسيما المادة 22 منه.

بمثل هذه الصيغة المميزة يحقق العهد هدفين وطنيين جليلين في آن: الحرص على تطبيق أحكام الدستور، وضمان صحة التمثيل الشعبي وعدالته.