ملايين الأمتار المكعبة من الأنقاض خلفتها الحرب المدمرة المجرمة التي تعرضت لها سورية خلال السنوات الماضية. هذه الأنقاض تحتاج إلى معالجة فنية لإعادة إعمار ما تهدم. البعض اعتبر إزالة هذه الأنقاض وترحيلها مشكلة ستكلف الدولة مئات الملايين إن لم نقل المليارات. ليس هذا فحسب بل سينتج عن ترحيلها جبال عملاقة من الأنقاض.
في حلب تقدر كمية الأنقاض حسب الدراسات الأولية بحدود 50 مليون م3 من مختلف أنواع الأنقاض. أسئلة كثيرة وعاجلة يمكن أن نطرحها تتناسب وضرورة المبادرة إلى اتخاذ القرارات التي تتناسب وحاجة البلاد الى سرعة إعادة الإعمار. هل هذه الأنقاض ستكون سببا لمشكلة قادمة..؟ أم إننا يمكن أن نستفيد منها..؟ في حلب تصدت الدكتورة المهندسة فاطمة الصالح من جامعة حلب لهذه القضية وأعدت دراسة متميزة وفريدة من نوعها للاستفادة من كل حبة من هذه الأنقاض «الوطن» التقت الدكتورة الباحثة وكان الحوار التالي:
دكتورة لو تحدثيننا عن هذا المشروع والبحث والهدف منه؟
تمر البلاد منذ خمس سنوات بأزمة كبيرة نتج عنها أضرار جسيمة لحقت بالمنشآت الهندسية والمباني السكنية والبنى التحتية. ما أنتج كميات هائلة جداً من الأنقاض التي تشمل طيفاً واسعاً من المواد التي تشكل عملية التخلص منها عبئاً اقتصادياً وبيئياً وجمالياً بالإضافة لكونها تشكل عائقاً مهماً أمام عملية البدء بإعادة الإعمار، حيث يتطلب ذلك عملية ترحيل هذه الأنقاض إلى المطامر أو المكبات الصحية الخاصة بها، وهذه العملية مكلفة اقتصادياً إضافة إلى أن هذه المطامر تنشأ على حساب المساحات الخضراء والأراضي الزراعية ما يضر بالبيئة بشكل كبير.
ومن خلال مراجعاتنا البحثية لأحدث الأبحاث في العالم وجدنا أن دولاً كثيرة قامت بتطوير مشاريعها الوطنية للتخلص من أنقاض الأبنية وبقايا الإنشاء رغم أن كمية هذه المواد أقل بكثير مما هو موجود في الحالة السورية ما شكل لنا حافزاً وهاجساً لإيجاد حلول علمية قابلة للتطبيق الهندسي لإدارة هذه الأنقاض حيث عملنا على القيام بعدد من الأبحاث في هذا المجال ثم كان «المشروع الوطني لتدوير وإعادة استخدام أنقاض الأبنية والبنى التحتية» وهو أحد المشاريع الفائزة بالتمويل من صندوق دعم البحث العلمي والتطوير التقاني للتعليم العالي والمقدمة ضمن إطار الإعلان الأول لاتفاقية التعاون البحثي العلمي المشترك الموقعة بين وزارة التعليم العالي وبين وزارة الدولة لشؤون البيئة للعام 2014 وقد تم توقيع العقد الخاص بالمشروع في بداية العام 2016. هذا ويتألف فريق العمل بالإضافة لي كباحث رئيسي للمشروع من 13 باحثا منهم سبعة أساتذة من جامعة حلب وستة باحثين من مديرية البيئة في مدينة حلب.
يهدف المشروع إلى وضع مقياس محدد لتصنيف الحصويات الناتجة عن الأنقاض حسب خواصها الفيزيائية والميكانيكية في المرحلة الأولى يتم الاعتماد عليه في تحديد إمكانية استخدام هذه الأنقاض في الاستخدامات الهندسية المختلفة في المرحلة التالية. كما يتضمن تصميم خلطات بيتونية وإسفلتية وخلطات بلوك وإيجاد مواد عازلة جديدة متوافقة مع الأنظمة العالمية باستخدام هذه الأنقاض المعادة التدوير وفقاً لعوامل محددة مسبقاً كالكلفة، والمقاومة.
ويتضمن المشروع دراسة استخدام الحصويات المختلفة المعادة التدوير في الطرق الاسفلتية وفي الخلطات البيتونية المختلفة في إعادة إعمار المواقع المهدمة وكذلك في تصنيع البلوك حيث تكون المواصفات المطلوبة في الخلطات المستخدمة للبلوك أقل من تلك المستخدمة في البيتون. وقد قامت الباحثة فاطمة الصالح بتطوير خلطة خاصة بالبلوك ذات عازلية حرارية عالية بإضافة بعض المواد المحلية المتوفرة بكثرة مثل الخبث البركاني (البوزولان) وتم التوصل إلى قيم إيصالية حرارية ممتازة يمكن أن تؤدي إلى تخفيض استهلاك الطاقة المستهلكة في المباني بين 25 إلى 30 % ما يزيد من المردود البيئي لعملية إعادة التدوير بشكل كبير جداً ويتم تطوير خلطات أخرى بإضافة بعض مواد النفايات الصلبة الموجودة في الأنقاض كالنفايات البلاستيكية والنسيجية. كما تتم دراسة استخدام الحصويات المعادة التدوير في تصنيع خلطات بيتونية نفوذة تستخدم في رصف الساحات والطرق الثانوية وساحات الوقوف وممرات الحدائق وهي تقنية متبعة في دول كثيرة في العالم على نطاق واسع جداً فقد قمنا سابقا بتصنيع نوع من هذه الخلطات وتم الوصول فيه إلى مقاومات ممتازة تفوق ما ورد في الكودات العالمية بنسب تزيد على 20 % ويتم في هذا البحث تصميم خلطات جديدة واختبارها للوصول إلى الخلطات الأمثل. كذلك فإن المشروع يدرس إعادة استخدام مخلفات البنى التحتية مثل نواتج كشط الطبقة الزفتية في الطرق وشبكات المياه المهترئة، وإعادة تدوير واستخدام المواد الأخرى في الأنقاض.
كيف يمكن إجراء الإحصاء الدقيق لمخلفات الأبنية المهدمة وهل الكميات التقديرية كافية؟
العملية معقدة وتحتاج لتنظيم جيد كي يمكن تحديد أنواع الأنقاض وكميات هذه الأنواع وتوزعها الجغرافي بدقة. ما يهمنا فعلا كحالة سورية اعتماد نتائج الأبحاث التي يتضمنها المشروع ليتم هذا التصنيف بشكل صحيح وفق ما تم انجازه ثم ليتم فرزها وتصنيفها حيث يمكن الاستفادة من قيمتها الاقتصادية بالشكل الأمثل بمعنى آخر لتحديد طريقة الفرز ونوعية محطات التدوير المستخدمة.
إن الكميات التقديرية لهذه الأنقاض والمخلفات كبيرة جداً تصل على سبيل المثال في حال تضرر 500.000 شقة طابقية بمساحة وسطية بحدود 100 متر مربع فإن حجم الأنقاض الناتجة سيزيد على 50 مليون متر مكعب وهذه الكميات تشكل أكبر مبرر اقتصادي لنشوء صناعة تدوير أنقاض حقيقية ذات جدوى.
ما الوفورات الاقتصادية التي يمكن أن يوفرها المشروع على الاقتصاد الوطني بشكل عام والمواطنين بشكل خاص؟
تم في المشروع إيجاد ميزان اقتصادي بيئي بناء على دراسة السوق والأسعار واعتماد نظام نقاط مدروس وقد رجحت كفته بشكل كبير لمصلحة إعادة التدوير في المكان أو بأقرب مسافة بين مكان الأنقاض ومحطات الفرز وأماكن الاستخدام. ولنقل ببساطة: إن إعادة التدوير تقلل الكلف التي ستدفعها الدولة لطمر الأنقاض وخاصة أجور نقلها إلى المطامر البعيدة عادة كما أنها تعني المحافظة على الموارد وخاصة الطبيعية منها حيث تحتاج عملية إعادة الإعمار إلى مقالع كبيرة جداً لتأمين الحصويات المطلوبة لهذه العملية. إن إعادة التدوير في الموقع أو في منطقة قريبة من الموقع عملية شائعة في تنفيذ مشاريع الانشاء الكبيرة كطريقة لتجنب الكلف الكبيرة وبمردود اقتصادي عال. قد يصل إلى تخفيض يقارب 40-50% من الاعمار باستخدام مواد جديدة. وإضافة إلى العوائد المادية الناتجة بيع المواد المختلفة المفيدة في الأنقاض فإن صناعة إعادة التدوير وهنا أشدد على كلمة صناعة، ستؤمن مصادر دخل جديدة للجهات العامة والخاصة المشاركة فيها كما للأفرد بشكل مباشر عن طريق العمل أو الاستثمار أو عن طريق الوفر والربح الاقتصادي الناتج عن هذه الصناعة.
ما الآلية الفعلية لتحويل المشروع إلى منجز حقيقي على الأرض؟
المشروع في الأصل تطبيقي تجريبي حقيقي لا يعتمد الفانتازا العلمية وقد وضعنا عملية إعادة الإعمار نصب أعيننا ونحن نضع نقاطه الأولى. ويمكن ببساطة الاستفادة من المنتج العلمي الناتج من الجهات المختلفة وذلك من خلال التعاون لتحديد الطريقة الأمثل لتصنيف وفرز الأنقاض وتحديد نوعية محطات الفرز التي يمكن اعتمادها ليتم الاقلاع بصناعة إعادة تدوير حقيقية مربحة.
ما منعكسات المشروع اجتماعيا وبيئيا؟
للمشروع عند تطبيق نتائجه تأثير كبير في تقليل الكلف التي ستترتب على المواطنين عند إعادة تأهيل منازلهم وبالتالي العودة السريعة للمنظومة الاجتماعية إلى الوضع الطبيعي الذي كان قائما قبل الأزمة هذا عدا الآثار البيئية الايجابية التي نوهنا عنها سابقا وتأمين فرص العمل التي ستنعكس إجتماعيا بشكل ايجابي. كما أنه على الصعيد الضيق في الجامعة ساهم المشروع في زرع التفاؤل في نفوس الطلاب والزملاء من خلال ما رأوه من اصرار القائمين على المشروع على العمل حتى في أقسى الظروف حتى إن أعداداً كبيرة من الطلاب أرادت المساهمة في الأعمال التجريبية للمشروع.