عرّى النقاش حول قانون الانتخاب اللبنانيين. وكشّفت الذئاب الطائفية في نظام الفساد عن أنيابها. وخرجت من غبار النسيان مصطلحات عفا عليها الزمن. رجعنا نسمع عن الاقصاء والالغاء والتقوقع، والخوف على المصالحة الوطنية، وعلى المهجّرين العائدين إلى بيوتهم. ولم يكن ينقصنا سوى أن نستعيد عبارة الإذاعي الراحل شريف الأخوي "سالكة وآمنة".
هل يعقل أن ترتفع المتاريس الكلامية بين اللبنانيين، تمهيداً لمتاريس من رمل وحديد، بسبب النقاش حول قانون انتخاب .هذه مهزلة. ما نقرأ وما نسمع لا يبشر بخير. للمرة الأولى يتفق اللبنانيون، بل يجمعون على ضرورة تغيير النظام بصورة سلميّة عن طريق صناديق الاقتراع، لا صناديق الذخيرة. وإذ بهذه الرغبة الديموقراطية تتحول قنبلة موقوتة تنتظر إنطلاق العد التنازلي لتفجير البلد.
خلال فترة الفراغ الرئاسي، وقبلها، وعلى الرغم من التمديد مرتين لمجلس النواب، لم يبرز للحظة ما يوحي بأزمة قوانين انتخاب. لا بل على العكس، ازدحمت أدراج المشرّعين بمشاريع القوانين، من كل صنف ولون. من الأكثري إلى النسبي إلى الدوائر المصغّرة والفرديّة وإلى لبنان الدائرة الواحدة. وتبارت الأحزاب والقوى السياسية في تزكية مشاريع وتقديمها بشكل مشترك كمشاريع قوانين. "القوات اللبنانية" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" و"تيار المستقبل" قدموا مشروعاً مختلطاً محدداً، وحكومة نجيب ميقاتي السابقة بما كانت تمثل من قوى الثامن من آذار، أجمعت على مشروع قانون مرِن الدوائر، أما المجتمع المدني معززاً بهبات مالية دولية، فاستفاض في التثقيف الانتخابي، وشرح حقوق الناس في تداول السلطة ومحاسبتها في صناديق الاقتراع. وسمح فائض المموّلين بفتح ملفات الإصلاح الانتخابي حتى قبل أن نضمن دورية اجراء الانتخابات والسير بقانون ينظمها. فصار اللبنانيون خبراء بأوراق الاقتراع الموحدة والكوتا وسنّ المقترعين، وغيرها من الإصلاحات الضرورية المطلوبة.
كان الاعتقاد سائداً أن أياً لن ولا يستطيع الوقوف أمام محدلة الرغبة الجارفة بإجراء الانتخابات، لكن حلم الصيف الجميل تحوّل كابوساً في شتاء الطوائف القارس. صارت النسبية تلغي الدروز في الجبل. كيف ذلك؟ الله أعلم. خرج نواب ووزراء الحزب "التقدمي" يهدّدون بالويل إذا ما حاول أحد اقصاء الدروز وهم الطائفة المؤسسة للكيان اللبناني. وجال مسؤولوه على فاعليات البلد من أقصاه إلى أقصاه، يشرحون الخطر الداهم في قانون النسبية بتكرار عبارة ان التعايش والتعددية في الجبل في خطر وان المصالحة التاريخية مهددة و"هذا خط أحمر"، وبالتالي هذا انقلاب على الطائف عبر القانون "المسخ".
وذهبرئيس تيّار "المردة" النائب سليمان فرنجية بعد استقباله الوفد "التقدمي" أبعد من ذلك مؤكداً أن "حقوق المسيحيين تكون حين يكونون آمنين موضحاً ان هناك من يحاول خلق حالة شاذة في المناطق الموجود فيها مسيحيين من منطلق التحريض الطائفي والتخوين".
هذا الكلام يُفهم منه أن التعايش بخطر فعلاً، لا بسبب قانون انتخاب، بل لأن جهة سياسية في الجبل، قلب لبنان، تريد أخذ المسيحيين رهينة. بمعنى آخر إذا وصل مرشح مسيحي إلى البرلمان من دون الصعود بالبوسطة الجنبلاطية (نسبة للنائب وليد جنبلاط) سيكون فوزه انقلاباً على الطائف تهديداً للسلم الاهلي! هذا الخطاب لو كانت المصالحة حقيقيّة لما تجرأ أحد على التصريح به. لو كان هناك مشاريع سياسيّة وطنيّة غير طائفيّة وفئويّة ما كان هكذا كلام لاقى صدى. المشكلة أن النظام لا يريد التغيير، وأركانه قادرون على النفاذ بقانون انتخاب يعيد إنتاج السلطة ذاتها.
هذا العنف اللفظي يتصاعد من أكثر من جهة سياسية هي في صلب النظام الطائفي القائم، وهو موجّه بصورة مركّزة ضدّ إصرار رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على اجراء الإنتخابات بقانون عادل ومنصف ويؤمن صحة التمثيل ولو كلّفه ذلك الخيار المرّ، أي الامتناع عن توقيع مرسوم اجراء الانتخابات وصولا إلى فراغ تشريعي بعد العشرين من حزيران المقبل. وهذا يعني أن لبنان بسبب الإصرار على التهريب الانتخابي، مقبلٌ على ايام من عدم الاستقرار تشعر معها كل طائفة أنها مهددة بامتيازاتها وحصتها، وهنا يصبح السلم الأهلي في خطر. وعندها يصبح مشروعاً السؤال: هل سقطت التسوية المحلية والرضا الدولي اللذان أتاحا انتخاب عون رئيساً للجمهورية.
هواجس النائب وليد جنبلاط مفهومة، فهو كزعيم سياسي يخسر عدداً من النواب في ظل مشاريع القوانين الانتخابية المطروحة للنقاش. لكن خسارة المقاعد أو الفوز بها من قواعد اللعبة الديموقراطية. وهي تتبدّل من دورة إلى أخرى. وشرط انتقال السلطة في الأنظمة الديموقراطية التي ندّعي الانتماء اليها، أن يكون سلمياً لا بأخذ رهائن من طوائف أخرى.
صحيح أن هناك ثغرات في القانون المختلط، وفي غيره أيضًا، لكن ذلك لا يلغي السعي إلى عدالة التمثيل من دون التهديد بحروب. وطالما أن التسوية الرئاسيّة لا تزال سارية، تبقى فرصة اجراء الانتخابات بقانون عصري قائمة، ولو على حساب بعض أركان النظام.
بدأ عهد تسديد الحساب.