الأزمة الحالية حول قانون الانتخاب، وعجز القوى الممثِّلة للطوائف الكبرى عن الاتفاق على معايير واضحة للمرتجى من القانون المنتظر، يعكسان عُمق أزمة النظام اللبناني «القديم»، الهجين بين الطائف أو ما طُبّق منه، وتفاهم الدوحة قبل عشر سنوات. ولعلّ الرئيس ميشال عون أراد من قوله مع تشكيل حكومة الرئيس سعد الحريري، إن «هذه الحكومة ليست أولى حكومات العهد، لأن العهد يبدأ فعليّاً بعد الانتخابات النيابية»، أن يقطع الشكّ في أن نتائج الانتخابات ستأتي صادمة بما يكفي لكسر «رتابة» النظام القديم، الذي رسم توازنات في المجلس النيابي وفي النظام والحصص، لا يمكن لعون أن يقبل بها بعد الآن.
وبذلك تكون المرحلة الحاليّة مرحلة شبه انتقالية إلى «نظام جديد»، لا يُعرف عنه شيء، إلّا أن نتائج الانتخابات النيابية قد تتكفّل بفرضه تدريجاً، على الرغم من التزام عون في خطاب القسم اتفاق الطائف.
وإذا بقي عون كرئيس للتيار الوطني الحر «خَجِلاً» طوال السنوات العشر الماضية من التعبير عن نيّته هدم الطائف من أساسه، والعودة إلى توازنات ما قبل الحرب الأهلية تحت شعار «حقوق المسيحيين»، فإن الأزمة الحالية واحتمالات وصولها إلى أفقٍ مسدود، تُذَلّل العقبات أمام عون، رئيس الجمهورية هذه المرّة، لتحريره من عبء الطائف الذي لم يُصَمَّم ليمنح المسيحيين «حقوقهم» كما يراها الرئيس، وشريكه حزب القوات اللبنانية، خصوصاً أن «النسخة المتداولة» من الطائف لا تُشجّع على مواجهة خطاب عون، ما دام إلغاء الطائفية السياسية أُسقِط بالتجربة في عهود ما بعد الحرب.
في مرحلة التفاوض بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحرّ قُبيل دعم ترشيح الحريري انتخاب عون، كانت القوة الشعبية المسيحية التي يمثّلها الأخير بالنسبة إلى المستقبل محفّزاً لدعم انتخابه. على عكس النظرة القديمة التي اعتبرت، في اتفاق الدوحة مثلاً، وصول رئيس جمهورية مع حيثية شعبية تهديداً للطائف، ففضّلت اختيار الرئيس «الضعيف» ميشال سليمان. ذلك أن المستقبل رأى أن عون سيمارس الحكم بخلفية القوي الذي لا يحتاج إلى التصعيد، لشدّ عصبه وكسب التأييد الشعبي.
لكن لم تكن تجربة تأليف حكومة الحريري الحالية مشجّعة لأصحاب النظرية السابقة، إذ أثبت خلال الشهر الأوّل من تولّيه رئاسة الجمهورية والمفاوضات حول تشكيل الحكومة، أن كل ما سعى إليه زعماء الطائفة السنيّة في لبنان، قبل الحرب وخلالها، لتقليص دور رئيس الجمهورية أو المسيحيين في تشكيل الحكومة على حساب تأثير رئيسها أو من يمثّل، لم يُفلح في كبح عون المستند إلى الدعم الشعبي والتحالف مع القوات وغضّ نظر حزب الله والرئيس نبيه برّي عن فرض الحكومة التي يريد، فضلاً عن حجم فائض القوّة الذي يعبّر عنه وزراؤه في جلسات الحكومة.
خلف أزمة قانون الانتخاب لا يخرج السياسيّون إلّا بمسلّمة واحدة، هي أن قانون الانتخاب الذي يطمح إليه عون يوصل إلى الآتي: إضعاف الحريري نيابياً، لإضعاف سلطة «ما بعد الطائف» لاحقاً، لحساب توسّع تأثير دور رئيس الجمهورية ليلامس ما كان عليه قبل الحرب الأهلية، ويكون إضعاف النائب وليد جنبلاط نيابياً وسياسياً، بـ«ظهر البَيْعة». تهديد الاشتراكيين في الأيام الماضية، وإبلاغهم من يعنيهم الأمر من القوى السياسيّة الأخرى أن رفضهم لقانون انتخاب يُفرض عليهم فرضاً قد يصل حدّ النزول إلى الشارع ومنع إجراء الانتخابات النيابية في المناطق التي «يمون» فيها الحزب الاشتراكي من «باتر إلى كفرسلوان»، أقلّ الممكن أن يُقابلا بردٍّ من رئيس الجمهورية بأن «هذا التمرّد يصلح في عهدٍ غير عهد الرئيس عون».
في تيار المستقبل ثمة من بدأ بتلاوة فعل الندامة على خيار ترشيح عون إلى الرئاسة. عندما لمّح رئيس الجمهورية إلى إمكان استخدام صلاحياته الدستورية وتعطيل الانتخابات النيابية في حال تعذّر الاتفاق على قانون جديد، اعتبر الحريري كلام عون نوعاً من الضغط أو التهويل. ولمّا كرّر عون مواقفه، بدأ المستقبل بالبحث عن دستورية الصلاحيات التي يتحدّث عنها الرئيس. وأخيراً، حين أوصل عون رسائله الجديّة بأن لا مشكلة لديه في الوصول بالأزمة إلى أقصى حدودها، وتهديد النظام برمّته، بدأ الوزير نهاد المشنوق بالتعبير عمّا يدور في باطن الحريري والمستقبل من قلق، مؤكّداً عزمه على التزام المهل الدستورية ووضع مرسوم دعوة الهيئات الناخبة في عهدة الحريري، الذي يرى ما هو المناسب في رفعه لعون، أو إبقائه أسيراً للتسوية. وفي مواجهة «عناد» عون، بدأ المشنوق بالتلميح إلى إصرار «المجتمع الدولي» ومعشر السفراء على إجراء الانتخابات النيابية في موعدها، وأن علاقة لبنان مع «المجتمع الدولي» وما يقوله هؤلاء عن مظلّة سياسية لحماية لبنان من لهيب المنطقة، مرتبطان بمدى التزام لبنان بالاستحقاقات الدستورية. وهو لا ينفكّ يستقبل سفيراً تلو الآخر، وآخرهم أمس السفيرة الأميركية إليزابيث ريتشارد، التي صرّحت، في تدخّل وقح في الشأن الداخلي اللبناني، مشدّدة «على أهمية إجراء الانتخابات النيابية في موعدها». لكن من يعرف عون يدرك أن الأخير حين كان محاصراً في القصر الجمهوري، فضّل أن يسجّل على نفسه هزيمة مرحلية، على أن يتراجع أمام الرعاية الأميركية وقتها، للتفاهم السعودي ــ السوري على إخراجه من بعبدا بالقوّة، فكيف إذا كان الآن رئيساً للجمهورية، وليس حريصاً على الطائف أكثر من الحريري، وما دامت «المسؤولية تقع على من لم ينفّذ تعهداته بإعداد قانون جديد للانتخابات»؟
وللعِلم، فإن عون يقرأ جيّداً المزاج الدولي هذه المرّة، وهو يدرك تماماً أن شعار «حماية المسيحيين» في أي أزمة لبنانية مقبلة، خلال عهد الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، هو الشعار المناسب لكسب تعاطف الأخير، وانتزاع ما يريد انتزاعه من الحريري وغيره.
ولعلّ جرأة المشنوق في التعبير عن بواطن تفكير الحريري، سببها الضعف الذي يشعر به رئيس الحكومة، ومحاولاته تلقّف اندفاع عون بإيجابية لتأخير الصدام. فأزمة الحريري المالية تزداد ضيقاً وتزداد معها حالة الانكفاء السعودي عن المنطقة بشكلٍ عام. ويغضّ الحريري الطرف عن نيّة عون «قضم» امتيازات رئاسة الحكومة، مقابل الحصول على مصادر تمويل جديدة من الدولة اللبنانية في أكثر من مرفق وقطاع، لا يمكن الحصول عليها في حال اندلاع صدامٍ جدّي مع رئيس الجمهورية الآن. لكن، في حال تَعَذّر الوصول إلى اتفاق حول قانون الانتخاب قبل موعد الانتخابات، وقرّر عون تنفيذ تهديداته، فهل يحتمل الحريري حصول الأزمة الكبرى بما يفتح الباب أمام سقوط الطائف؟ وهو الذي بشّر السعوديين بأن عون سيكون ضمانة للاتفاق؟