الوضع السياسي والاجتماعي في لبنان متوتّر ومُحتقن ومُحبِط. إذا لم يتفق أركان الشبكة الحاكمة على قانونٍ عادل للانتخابات، فإنّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون يتجه، كما يبدو، إلى عدم توقيع مرسوم دعوة الهيئات الناخبة لانتخاب مجلس نواب جديد. إلى ذلك، أكّد الرئيس عون ورؤساء كتل برلمانية وازنة رفضهم التمديد مرةً ثالثة لمجلس النواب الأمر الذي يؤدّي إلى نتيجة ماثلة: الفراغ.

ما العمل؟

ثمة وقائع وحقائق ثابتة يقتضي بيانها قبل الإجابة عن السؤال التحدّي:

أولاها أنّ أركان الشبكة الحاكمة ليسوا راغبين ولا قادرين على إنجاز قانونٍ انتخاب ديمقراطي وعصري، بسبب تناقض المقاييس والمعايير التي يشترطها كلٌّ منهم لضمان مصالحه الانتخابية والسياسية.

ثانيتها، أنه لو تمكّن هؤلاء من التوافق على مشروع قانون يعتبرونه تسويةً وسطية، فإنها لن تحظى، بالضرورة، بموافقة الرئيس عون الذي التزم في خطاب القسم عند انتخابه، كما في مناسبات لاحقة، التمسكَ بقانونٍ يكفل صحة التمثيل الشعبي وعدالته، بالإضافة إلى إعلانه أنه «مع النسبية المطلقة».

ثالثتها، أنه يُنسب إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري قوله للرئيس عون إنّ التمديد للمجلس هو الفراغ السياسي بعينه.

رابعتها، أنّ خصوم النسبية يدّعون بأن لا سبيل، مع وجود سلاح حزب الله المقاومة إلى إجراء الانتخابات بقانون يعتمد النسبية، غير أنهم أخفقوا في تفسير إجرائها مرات عدّة بقانون يعتمد النظام الأكثري مع وجود سلاح المقاومة.

خامستها، أنّ بعض خصوم النسبية يدّعي أن لا فراغ سياسياً ينجم عن عدم إجراء الانتخابات، لأنّ مجلس النواب يبقى قائماً بمهامه عملاً بنظرية استمرارية المرفق العام.

لا غلوّ في القول إنّ لبنان في حال فراغ سياسي منذ انتخابات العام 2009، ايّ طوال ولاية مجلس النواب المنتخب وفق قانون الانتخاب الأكثري للعام 2008 المعروف بقانون «الستين» والممدّد له مرتين. وليس أدلّ على الفراغ السياسي المتواصل من عجز هذا المجلس عن الاجتماع معظم السنوات الأربع الماضية. هذا بالإضافة إلى عجز مجلس الوزراء عن الاجتماع فترات طويلة نتيجةَ الصراع المرير بين القوى السياسية المتنافسة. وطالما أنّ قانون «الستين» هو الفراغ بعينه، على حدّ تعبير الرئيس بري، فإنّ إجراء الانتخابات وفق هذا القانون او عدم إجرائها يُبقي حالة الفراغ قائمة من دون مضاعفات أمنية مقلقة.

أما الادّعاء بأن لا فراغ سياسياً إذا لم تجر انتخابات نيابية عملاً بنظرية استمرارية المرفق العام، فهو هرطقة ليس إلاّ. ذلك أنّ نظرية استمرارية المرفق العام تتعلّق بمؤسسات إدارية تعيّن الحكومة أعضاء مجالسها الإدارية وموظفيها ولا تتعلق بمؤسسات سياسية ينتخب الشعب أعضاءها كالمجالس النيابية.

يتحصّل مما سبق بيانه أنّ الفراغ الناجم عن عدم إجراء الانتخابات لن تكون له مضاعفات سياسية وأمنية أخطر من شغور سدة رئاسة الجمهورية الذي دام نحو ثلاثين شهراً والشلل الطويل الذي أصاب مجلسَيْ النواب والوزراء خلال السنتين الماضيتين.

في حال الفراغ، كيف يمكن أن يتصرّف الرئيس ميشال عون؟

يعتقد البعض أنه كان لعون طموح أساسي هو رئاسة الجمهورية، وأنه لن يُشغل نفسه بعد وصوله إليها إلاّ بهمٍّ واحد هو استمرارية عهده بهدوء وسلام. لذلك سيضغط على الأطراف السياسية المتصارعة للتوافق على مشروع قانون تسووي للانتخابات. وإذا تعذّر ذلك، فإنه لن يتوانى عن إجراء الانتخابات وفق القانون النافذ، أيّ قانون «الستين».

ثمّة آخرون أشاطرهم الرأي يعتقدون أنّ للجنرال عون طموحاً أكبر من رئاسة الجمهورية هو أن يترك بصمة إصلاحية بارزة في تاريخ لبنان السياسي، كالتي تركها الجنرال ديغول في تاريخ فرنسا بأن نقلها من نظام الجمهورية الرابعة المترهّل إلى نظام الجمهورية الخامسة المتكامل الذي ما زال ثابتاً وفاعلاً. وإذا كان نجاح ديغول فرنسا في مهمته التاريخية تطلّب اعتماد دستور جديد للبلاد، فإنّ نجاح «ديغول لبنان» يتطلّب اعتماد قانون انتخاب جديد، عصري وعادل، بما هو مفتاح الإصلاح الحقيقي ومدخله وشرطه للانتقال بالبلاد من النظام الطوائفي المركانتيلي الفاسد إلى دولة المواطنة المدنية الديمقراطية التنموية والحضارية.

خلافاً لرأي بعض أركان الشبكة الحاكمة وشركائهم المستفيدين من مغانم النظام الطوائفي المركانتيلي وأسلابه، فإن الفراغ يشكّل فرصة ذهبية للرئيس العماد لتحقيق طموحاته وأهدافه العليا التي ضمّنها خطاب القَسَم، وأهمّها احترام الدستور وتطبيق أحكامه، وتشريع قانون عصري يعتمد النسبية الكاملة لكفالة صحة التمثيل وعدالته.

لتفادي الفراغ السياسي او للخروج منه يرى الرئيس عون إجراء استفتاء، بمثابة استطلاع رأي، للشعب في قانون الانتخاب الأفضل للبلاد، على ألا تكون له قوة إلزامية بل مجرد صفة توجيهية. ويبدو الرئيس عون واثقاً من انّ غالبية اللبنانيين تحبّذ النسبية الأمر الذي يعزّز خيار اعتمادها في قانون الانتخاب الجديد المراد تشريعه.

كيف يمكن تحقيق هذه الأهداف؟ بإصرار الرئيس عون وحلفائه السياسيين في البرلمان والشارع على رفض التمديد لمجلس النواب ورفض إجراء الانتخابات وفق قانون «الستين» ما يؤدّي إلى قيام حالٍ من الفراغ واحتمالٍ غالب باستقالة أكثر من ثلث عدد وزراء الحكومة وبالتالي اعتبارها مستقيلة المادة 69 من الدستور الأمر الذي يتيح للرئيس عون، بالتفاهم مع حلفائه ومع أوسع فريق سياسي ملتزم ضرورةَ مباشرة العملية الإصلاحية الدستورية، بالمبادرة إلى تأليف حكومة وطنية جامعة مهمّتها الرئيسة تفعيل أحكام المادة 22 من الدستور برلمان لمجلسين واحد نيابي على أساس وطني لاطائفي وآخر للشيوخ لتمثيل الطوائف ووضع نظام عصري للانتخابات على أساس النسبية الكاملة في دائرة وطنية واحدة وإجرائها بغية إنتاج مجلس نيابي يجسّد صحة التمثيل وعدالته ويقوم تالياً بتشريع القوانين اللازمة لوضع المادة 22 المذكورة قيد التنفيذ، ولا سيما لجهة تحديد صلاحيات مجلس الشيوخ.

إنّ العماد ميشال عون، بما يملك من خصال مميّزة وشجاعة وخبرة، قادر مع حلفائه من دعاة التغيير والإصلاح، داخل البرلمان وفي الشارع الوطني، على رعاية الوثبة الجريئة المطلوبة للانتقال بلبنان من نظام متزعّمي الطوائف وأصحاب المزارع والمصالح السياسية والتجارية إلى دولة المواطنة المدنية الديمقراطية.

هل يقبل عون التحدّي؟ وهل يستجيب وحلفاؤه لنداء الإنقاذ والإصلاح والنهضة والبناء الحضاري؟