يبدو أنّ اتفاق القوى السياسية على مشروع قانون جديد للانتخابات النيابية أمرٌ لا يقلّ صعوبةً عن اتّفاقهم على انتخاب رئيس الجمهورية.
وإذا كان انتخاب الرئيس قد تمّ بعد أكثر من سنتين على شغور هذا المركز بنتيجة تسوية شَملت الرئاسة وتأليف الحكومة، فإنّ هذه التسوية لا تكتمل فصولها إلّا بإقرار قانون جديد للانتخابات تجري بالاستناد إليه الانتخابات النيابية في موعد استحقاقها، باعتبار أنّ تمديد ولاية المجلس الحالي أو إجراء انتخاب على أساس قانون الستّين، مناقضان كلاهما للشرعية الدستورية ومخالفان لأبسط قواعد الديموقراطية.
فمِن هذه الزاوية، يجب النظر إلى كلام الرئيس العماد ميشال عون حول ضرورة اعتماد قانون جديد للانتخابات النيابية يؤمّن صحّة التمثيل، ووضعه في إطاره الدستوري الصحيح كموقف مبدئي، خارج عن الصراع السياسي، يندرج ضمن الدور العائد له كرئيس للدولة وحارسٍ للدستور الذي أقسَم اليمين على احترامه.
فرئيس الجمهورية ليس طرفاً من الأطراف السياسية المتنازعة، لذلك فإنّ كلامه عن إمكانية حصول فراغ هو كلام توجيهي جاء في إطار التحفيز والتشجيع على الإسراع في إنجاز وإقرار قانون جديد للانتخابات النيابية، وقد توخّى الرئيس من ورائه تحقيقَ الأهداف التي حدّدتها وثيقة الوفاق الوطني لأيّ قانون انتخابات نيابية.
ومن هذا المنطلق وإزاء عجز القوى السياسية عن الاتفاق على قانون انتخابات نيابية يؤمّن صحّة التمثيل، بات من الضروري أن يرعى رئيس الجمهورية هيئة حوار ينحصر جدولُ أعمالها بالاتفاق على قانون انتخابات جديد. إنّ الدور الذي يمكن أن يلعبه رئيس الجمهورية ضمن هذه الهيئة هو دور الحكم والمرشد، الذي يقرّب وجهات النظر ويُبدّد الهواجس، تماماً كالدور الذي يلعبه حينما يَحضر جلسات مجلس الوزراء، فيترأس عند ذلك الجلسة التي يَحضرها ويدير المناقشات، من دون أن يكون له حقّ التصويت.
لقد حدّد الدستور اللبناني، الذي أقسَم رئيس الجمهورية اليمينَ على احترامه، في البند «ج» من وثيقة الوفاق الوطني الأهدافَ التي يجب أن يسعى أيّ قانون انتخابي إلى تحقيقها، بما يأتي:
- ضمانة العيش المشترك.
- ضمانة صحّة التمثيل السياسي لشتّى فئات الشعب وأجياله.
- فعالية التمثيل.
- المحافظة على وحدة الأرض والشعب والمؤسّسات.
أمّا الأهداف التي تسعى الأطرافُ السياسية إلى تحقيقها فهي بعيدة كلّ البعد عن الأهداف المشار إليها في وثيقة الوفاق الوطني، باعتبار أنّ الهمَّ الأوّل لهذه الأطراف هو استمرار وجودها في السلطة، ولا سيّما في المجلس النيابي، وأنّ موافقتها على أيّ نظام انتخابي مرتبطة بما يؤمّن لها هذا النظام مسبَقاً من مقاعد نيابية. لا بل أكثر من ذلك، إنّ رغبة كلّ طرفٍ سياسي هي الاستئثار ضمن طائفته بالمقاعد النيابية العائدة لها، وعدم فسحِ المجال لأيّ أقلّية ضمنها أن تتمثّل، ومنعُ بروز أيّة وجوهٍ جديدة في المجلس النيابي والحؤول دون أيّ تجدّد في الحياة السياسية.
إنّ استفحال الخلاف السياسي حول النظام الانتخابي الواجب اعتمادُه وعدم ثبات القوى السياسية على مواقفها من هذا النظام، وتغلّيب المصالح الشخصية على المصلحة العامة، تفرضُ انعقادَ هيئة الحوار هذه بصورة مستعجلة؛ وقد ناشدَت بعض القوى السياسية الحريصة تقليدياً على موقع الرئاسة، كحزب الكتائب، رئيسَ الجمهورية دعوةَ هيئة حوار مخصّصة لقانون الانتخابات النيابية؛ ولا نعتقد أنّ أيّاً من الأطراف السياسية يمانع في ذلك، طالما إنّ رئيس الجمهورية باقٍ خارج الصراع السياسي، مكتفياً بممارسة الصلاحيات التي يمنحها له الدستور كرئيس للدولة وكرمزٍ للوحدة الوطنية كضامنٍ لميثاق العيش المشترك.
أمّا في ما يتعلق بالصيَغ المتداوَلة للنظام الانتخابي الواجب اعتمادُه، فمن المناسب تذكيرُ الأطراف السياسية باجتهاد المجلس الدستوري اللبناني في قضية مراجعة إبطال بعض مواد قانون الانتخابات رقم 530/96، إذ أبطل المجلس في قراره الصادر بتاريخ 7/8/1996 بعضَ أحكام القانون المذكور لإخلالها بمبدأ المساواة المنصوص عليه في المادة 7 من الدستور وفي مقدّمته، مكرّساً المبادئ التالية:
- وجوب اعتماد قانون الانتخاب معياراً واحداً في تقسيم الدوائر الانتخابية.
- مبدأ مساواة اللبنانيين أمام القانون.
- مبدأ إعطاء كلّ صوت القيمة الاقتراعية ذاتها في مختلف الدوائر الانتخابية.
فالحدّ الفاصل بين الجائز وغير الجائز في أيّ نظام انتخابي هو قبل كلّ شيء وحدةُ المعايير التي لا نرى أنّ بعض المشاريع المطروحة، لا سيّما في ما يتعلق بتقسيم الدوائر، يأخذها في الاعتبار، إذ لا يمكن أن نفصل الدوائر الانتخابية من أجل الوصول إلى نتائج معيّنة، بل ينبغي البحث عن النظام الذي يؤمّن صحّة التمثيل لمختلف فئات الشعب، بمعزل عن النتائج التي يمكن أن تسفرَ عنها الانتخابات.
إنّ وحدةَ المعايير هي الشرط الأساسي لشرعية أيّ نظام انتخابي. فهذه الشرعية غير مرتبطة بطبيعة النظام؛ فكلّ مِن النظام الأكثري أو النظام النسبي يمكن أن يكون مطابقاً أو مخالفاً للدستور بقدر ما يؤمّن أو لا يؤمّن التمثيلَ الصحيح، وبقدر ما يراعي أو لا يراعي مبدأ المساواة بين المواطنين؛ لا بل إنّ النظام المختلط المبني على الجمع بين النظام الأكثري على مستوى الدائرة الصغرى (القضاء) وبين النظام النسبي على مستوى الدائرة الكبرى (المحافظة) - وهو النظام المقترح من قبَل الهيئة الوطنية الخاصة بقانون الانتخابات النيابية في العام 2006 والأكثر واقعية - إنّ هذا النظام ليس مخالفاً للدستور، طالما إنّه يراعي مبدأ المساواة بين الناخبين والمنتخَبين، وقد جاء بهذا الصَدد في تقرير الهيئة المكلّفة بدراسة إصلاح النظام الانتخابي الفرنسي برئاسة العلّامة جورج فيديل ما ترجمتُه:
«لا يبدو أنّ عقبات دستورية تواجه تواجد نوّاب منتخَبين بواسطة طرُق مختلفة طالما إنه تتمّ مراعاة مبدأ المساواة بين الناخبين والمنتخبين، بمعنى أن يُعطى الوزن نفسُه لصوت الناخب في كلّ من طريقي الاقتراع، أمّا النواب فإنّهم يتمتّعون بذات الكيان والصلاحيات مهما كانت طريقة انتخابهم».
ليس الهدف من هذا المقال تبنّي أو تأييد نظام انتخابي معيّن، بل لفتُ النظر إلى المبادئ الدستورية التي يجب مراعاتها عند اعتماد أيّ نظام انتخابي، لكي يكون مطابقاً للدستور وبمنأى عن أيّ مراجعة احتمالية ترمي إلى إبطاله أمام المجلس الدستوري.
فوحدة المعايير في تقسيم الدوائر الانتخابية ومبدأ المساواة بين اللبنانيين أمام القانون، ومبدأ إعطاء كلّ صوت القيمة الاقتراعية ذاتها في مختلف الدوائر الانتخابية، هي المبادئ الأساسية المستمدّة من وثيقة الوفاق الوطني ومن مقدّمة ونصوص الدستور، والتي يجب مراعاتها في قانون الانتخابات النيابية العتيد، الذي ينتظر اللبنانيون إقرارَه بفارغ الصبر، لكي يَبعث الأمل بعودة الديموقراطية من جديد إلى الحياة السياسية في لبنان.