يعقد من يطلقون على أنفسهم اسم الحراك المدني في عكار اجتماعاً اليوم لتقويم تحركهم الأخير المطالِب بتشغيل مطار القليعات، وتحديد خطواتهم المطلبية التصعيدية المقبلة. وإن أحسن هؤلاء تقويم أدائهم، وواصلوا العمل بالجدية التي أظهروها في الأسبوعين الماضيين، فإن آفاقاً سياسية جديدة ستفتح من خلالهم في عكار
لكل منطقة بند مطلبي يدأب السياسيون على نسخه ولصقه كلما دعتهم الحاجة إلى إصدار بيان. هكذا ارتبط الساحل الكسروانيّ بمداخن الذوق، وصيدا بمكب النفايات، وطرابلس بتوسيع المرفأ، وبعلبك – الهرمل بمذكرات التوقيف وسدّ العاصي، وعكار بمطار رينيه معوض. تتغير البنية الاقتصادية للبلد الذي تعصف فيه التحولات الاجتماعية، فيما تبقى مطالب السياسيين هي نفسها. يكررونها ببلاهة تُضجر.
فبدل أن يعدّ هؤلاء ملفاتهم الخاصة أو ينظروا أقله حولهم بحثاً عمّا يمكن فعله، يواصلون تكرار الشعارات الفارغة نفسها. ففي عكار، مثلاً، يمكن أيَّ سياسيّ أن ينسق قليلاً مع بضع بلديات ووزارة الأشغال العامة لاستحداث مشروع سياحي يوفر العمل لآلاف الأسر دون تكبيد خزينة الدولة شيئاً يذكر، في حال استنساخ تجربة بلدية صور في ترتيب شاطئها العام لتوفير مئات فرص العمل للعائلات التي تعتاش من المطاعم الصغيرة إضافة إلى عشرات الوظائف الأخرى في القطاع الخدماتي ــــ السياحيّ البحريّ المهمل بالكامل في المحافظة الشمالية. وكان يمكن أيَّ مرشح للانتخابات أن يستبدل بعَلك الكلام على شاشات التلفزيون والدعايات المتواصلة لشخصه الكريم على مواقع التواصل الاجتماعي قليلاً من التنسيق بين وزارة السياحة وبعض البلدات الجبلية ومحطات التلفزيون والترويج الافتراضي لضمّ جبال عكار إلى جبال كسروان وجبيل وبشري وزغرتا، حيث يصعب إيجاد غرفة شاغرة واحدة في الفنادق، فيما لا فنادق في عكار ولا من يحزنون.
علماً أن بعض الصفحات على انستغرام مثل Hiking.Akkar تسهم أكثر من كل هؤلاء السياسيين في تسويق المنطقة وتنشيط الحركة الاقتصادية قليلاً فيها. ويتجاوز الأمر المشاريع السياحية، فالجمعيات الأوروبية التي تتخذ من عكار مقراً لعملها مع اللاجئين السوريين تبدي استعدادها منذ سنوات للدخول في شراكة في مشاريع زراعية كبيرة بين حكومات بلادها وجمعيات أخرى وبلديات المنطقة والعمال السوريين، لكن أحداً لا يطرق بابها. كلما سئل سياسي عن عكار بدأ التباكي على مطار القليعات المقفل، علماً بأن مطار بيروت نفسه يكاد يقفل بسبب الحركة الأقل من عادية فيه نتيجة فشل المشرفين عليه في تحويله إلى نقطة ترانزيت عالمية مثل مطارات أتاتورك وصبيحة في إسطنبول ومطارات دبي والدوحة. فصحيح أن في بعض المدن الكبيرة مثل برشلونة، شيكاغو، فلوريدا، أوساكا، ميلانو، أوسلو ومانيلا ثلاثة مطارات في المدينة الواحدة، لكن التدقيق يبيّن أن واحداً من مطارات برشلونة الثلاثة استقبل عام 2016 نحو 44 مليون مسافر، فيما لم يتجاوز عدد المسافرين عبر مطار بيروت في العام نفسه ثمانية ملايين مسافر. وعليه، يفترض السؤال إن كان ثمة ضغط يستوجب تشغيل مطار إضافي، أم أن المطلوب تكليف أحد المتعهدين تجهيز المطار كما جهز مكبي نفايات بدل المكب الواحد، ليتبين بعد أشهر أن ما من حاجة فعلية له. علماً أن منتجات عكار الزراعية في حالتها المأسوية اليوم لا تحتاج طائرات لتنقلها إلى بيروت، أما قصة «المطار الداخلي» فمبالغ فيها كثيراً، خصوصاً أن المسافة بين حلبا وبيروت 91 كلم فقط. علماً أن المسافة بين بيروت وقبرص 260 كلم، لكن لا تكاد الطائرة تقلع حتى تهبط مجدداً، أما الحديث عن توفير الوقت في ظل زحمة السير، فمبالغ فيه أيضاً، لأن الصعود إلى أية طائرة يتطلب الحضور إلى المطار قبل ساعة أقله من موعد الإقلاع، وسيجد المسافر نفسه في نهاية الأمر عالقاً في سيارة التاكسي في الزحمة الرهيبة من مطار بيروت باتجاه بيروت. ولا شك بالتالي في أن اقتراح تشغيل المطار يفتقد حداً أدنى من المسوّغات الاقتصادية التي تمنح له. وهو إضافة إلى ذلك اقتراح تقليدي باهت مرّ عليه الزمن. لكنّ إبراهيم وهبة وجمال خضر، الناشطين في ما يعرف بالحراك المدني العكاري، بدآ حركة على مواقع التواصل الاجتماعي للمطالبة بتشغيله، وسرعان ما صار الاثنان عشرين، والعشرون أربعين والأربعون ثمانين؛ بينهم ممثلون لمجالس بلدية وجمعيات. وحين بات واضحاً من العالم الافتراضي والحركة الشعبية في القرى العكارية أنَّ ثمة تأييداً شعبياً عارماً لمطلب إقلاع المطار، هرعت الأحزاب لتستلحق نفسها فتتالت البيانات بما فيها بيان لتيار المستقبل. ولما كانت الحالة في مناطق نفوذ المستقبل كبيرة جداً نتيجة نجاح المنظمين في استقطاب غالبية الفعاليات المقربة من التيار التي لم تنتظر كلمة السر الحريرية لتنغمس في «الحراك العكاري»، تضعضع المستقبل ولم يعد يعرف ماذا يفعل، وازداد ارتباكه نتيجة معرفته أن المنظمين ينطلقون من حيثية جدية في مناطقهم، إضافة إلى مدهم جسوراً مع من يصفهم الوزير السابق أشرف ريفي بالحراك المدني في طرابلس لترتيب تحرك أكبر على مستوى الشمال كله يطالب بتشغيل المطار. وهنا بدأ تيار المستقبل ممثلاً بأحد أعضاء مكتبه السياسي الاتصال بالمجالس البلدية والمنظمين لطلب إدراج كلمة لنواب عكار في الاحتفال الذي دعا «الحراك العكاري» إلى إقامته أول من امس. وبما أن جميع اللجان النيابية الوزارات والسرايا الحكومية كانت مفتوحة أمام التيار لإلقاء الخطابات وإرفاقها بالأعمال، لا من يوم أو يومين، بل منذ خمسة وعشرين عاماً، رفض المنظمون كل العروضات، وتمسكوا بثلاث كلمات فقط: واحدة لهم، وأخرى لمفتي عكار وثالثة للمطران. وفي خطوة تحريضية غريبة، بدأ مسؤول مستقبلي التحريض على أحد المنظمين (إبراهيم وهبة) باعتباره مقرباً من التيار الوطني الحر، وتحديداً صديقاً لعضو المكتب السياسي العونيّ جيمي جبور. وتفرغ الأمين العام لتيار المستقبل أحمد الحريري مدة يومين لحل المشكلة غير المتوقعة بهذه الضخامة. وبعد جهد نجح المستقبليون في استمالة رئيس المجلس البلدي لتل حياة (حيث يُنظم الاحتفال). ومع دخول رئيس الحكومة سعد الحريري على خط المفاوضات، قرر المنظمون أن يلقي جمال خضر لا إبراهيم وهبة كلمة الحراك المدنيّ من دون إدراج كلمة لنواب المستقبل الذين قاطعوا الحدث العكاريّ السياسيّ – المطلبيّ الأكبر منذ سنوات، فيما حضر النائب خالد ضاهر، إلى جانب سجيع عطية ممثلاً نائب رئيس الحكومة السابق عصام فارس، ووليد وجيه البعريني ومسؤولين من التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية. ورغم الاستنفار المستقبليّ الكبير وضغطهم لتظهير أنفسهم في جميع الكاميرات، رفض المنظمون توجيه تحية أقله لممثل الأمين العام لتيار المستقبل. فما كان من الحريريين والحال هكذا في عرينهم إلا أن بدأوا في اليوم التالي توقيع عرائض شعبية في مختلف القرى تطالب بتشغيل المطار وإعطاء عدة تصريحات يقولون فيها إنهم نظموا مهرجان إقلاع المطار بالتنسيق مع الحراك المدني الذي لا يملك بعد الخبرة ولا الإمكانات لفضح هؤلاء وإيقافهم عند حدهم.
وفي النتيجة، يمكن القول إنّ ما يوصف بالحراك المدنيّ، وهو مجموعة متنوعة طرية العود نجحت لأول مرة في خلق حراك شعبي، بدا واضحاً أن مأسسته قليلاً ستوجع رأس المستقبل الذي وجد نفسه وحيداً بالكامل يحاول كبح اندفاعة هؤلاء باللحم الحيّ. وحين أشارت مقدمة الاحتفال لأحد الأطباء الطرابلسيين المشهود لهم في العمل الاجتماعي إلى صعود المنصة من أجل تبليغ الحاضرين بموعد اللقاء الأكبر في طرابلس، اندفع الحريريون بجنون أمام الكاميرات لمنعه من صعود المنصة وأخفوا على نحو مسرحي مضحك الميكروفون. ومن كانوا يعتقدون أنّ هز عرش المستقبل يبدأ من بيروت كانوا سيعيدون النظر في مقاربتهم لو كانوا في عكار في اليومين الماضيين وتلمسوا حجم الهشاشة المستقبلية التي لا تجد من ينفخ عليها لتندثر في الهواء.