لم ينتظر رجب طيب أردوغان طويلاً للانقلاب على تفاهماته مع موسكو، بعد أن وجد ضالته في سيد البيت الأبيض الجديد وإدارته. كان يكفي اتصال هاتفي من دونالد ترامب ليريح هواجسه حيال "منطقته الآمنة" الموعودة في الشمال السوري، بعدما بقيت قواته أكثر من 3 شهور عاجزة عن تحقيق أي إنجاز عسكري يمكّنها من اختراق مدينة الباب الاستراتيجية، مقابل زحف بدا داهماً للجيش السوري وحلفائه من جهتها الجنوبية. وفي وقت جذبت العمليات العسكرية للجيش الأنظار حيال سرعة تقدّم وحداته لتنتزع عشرات البلدات من تنظيم "داعش" بعد معارك شرسة مع مقاتليه، أوصلتها والقوات الحليفة إلى مشارف "تادف"، عقب سيطرتها بالكامل على الطريق الفاصل بين الباب والرقة، حطّ مدير الاستخبارات الأميركية مايك بومبيو بشكل مفاجئ في أنقرة للقاء أردوغان ورئيس جهاز استخباراته حقان فيدان، ليعقبه تحرُّش مقصود من قبَل المدفعية التركية بالقوات السورية، ودخول غارات التحالف الأميركي بشكل مكثّف على خط مساندة القوات التركية و"درع الفرات"، بهدف تأمين اقتحامها للمدينة المستعصية، ليجاهر الرئيس التركي بالفم الملآن بأن "هدف أنقرة اللاحق هو الرقة بعد الباب"، معلناً حدود "منطقته الآمنة" وما يتطلبها من حظر جوي.. ولتكون ميليشيات "الجيش الحر" بديل الجيش العربي السوري.
لعل أخطر ما يدور في ذهن أردوغان، خصوصاً أنه استبق بقراره تجنيد آلاف الشبان السوريين في تركيا، لتسخيرهم لاحقاً في خدمة المخطط التركي في الشمال السوري، وسط تداول أنباء عن سعي أميركي - تركي لحشد قوات خليجية من البحرين والسعودية وقطر، لإشراكهم في معركة تحرير الرقة، وقد يكون هذا هو الدافع الرئيسي لجولته التي شملت المحطات الثلاث، سيما أن زيارة مفاجئة قادت وزير الخارجية السعودي عادل الجبير إلى انقرة بعد انقطاع طويل، عقب مغادرة مدير الاستخبارات الأميركية، حيث لم يُخفِ نظيره التركي إمكانية إشراك قوات من السعودية إلى جانب التركية، في عملية تحرير الرقة.
إلا أن جموح أردوغان وهرولته إلى التموضع في كنف الرئيس الأميركي الجديد، منقلباً على تعهداته مع موسكو، خصوصاً عند إعلانه دخول قواته إلى الباب وما يهدف بعدها، جعلاه يتجاوز الرسالة التحذيرية الروسية التي تمثّلت بقتل ثلاثة من جنوده وإصابة 11 آخرين، بضربة جوية روسية خلال محاولة التقدُّم إلى داخل المدينة؛ في إشارة واضحة إلى تجاوز قواته الخطوط الحمر المتفق عليها مع موسكو. ورغم الاعتذار الروسي عن الضربة التي أدرجتها في سياق "الخطأ"، إلا أن أنقرة تلقّفت الرسالة، وهذا ما بدا واضحاً من خلال "تشكيك" هيئة أركانها بالتبرير الروسي، معلنة أنها سبق وأخطرت موسكو بإحداثيات وجود الجنود الأتراك في المنطقة.
صحيفة "نيزافيسمايا غازيتا" الروسية لفتت إلى أن أردوغان يهدف على الأرجح إلى استدراج "الناتو" إلى حرب رحاها الشمال السوري، ربطاً بالسباق الشرس الدائر الآن للإطباق على مدينة الباب، والتي لا يُستبعد أن تصل إلى احتكاك مباشر بين القوات التركية والسورية، التي اقتربت من المدينة من جهتها الجنوبية، مرجحة أن يكون هذا السيناريو من ضمن الأولويات التي حملها معه مدير وكالة الاستخبارات الأميركية إلى أنقرة. ورجّحت الصحيفة أن يتوجّه الجيش السوري وحلفاؤه بشكل مباغت لمهاجمة أعزاز والبلدات الحدودية مع تركيا، للالتفاف على القوات التركية، بمشاركة وحدات كردية بادرت منذ شهور إلى التنسيق الحثيث مع القيادة العسكرية السورية، وكان آخرها في قاعدة حميميم، حيث وضعت خطة مدروسة لضرب الغزو العسكري التركي انطلاقاً من الباب، حسب إشارة الصحيفة.
وفي السياق، يجزم مصدر عسكري سوري أنه لن تكون هناك خطوط تماس مع القوات التركية في مدينة الباب، و"الضربة ستكون مزدوَجة؛ باتجاه داعش والقوات التركية في آن"، مكتفياً بتأكيد أن دمشق وحلفاءها يسيرون وفق تكتيك عسكري مدروس سيُذهل أنقرة..
فهل هو فخّ نصبته دمشق وحلفاؤها للقوات التركية، عبر استدراجها إلى عمق المدينة لاستنزافها عند التحامها المباشر مع مقاتلي "داعش"، سيما أن دفاعات التنظيم الأساسية ما زالت محصَّنة، ليدخل بعدها الجيش السوري وحلفاؤه بأقل الخسائر الممكنة، وقد استُنزف الطرفان، على غرار السيناريو الذي رتّبته دمشق حيال إدلب؟
يخلص تقرير للمحلل العسكري في صحيفة "ناشونال ريفيو"، إلى ترجيح أن يكون هدف دمشق وحلفاؤها حيال معركة الباب، يكمن في إيقاع القوات التركية بين فكي كماشة؛ "داعش" من جهة، والجيش السوري والحلفاء في الجهة المقابلة، عبر استدراجها إلى مواجهة عمليات استنزاف خطيرة داخل المدينة، خصوصاً أن هيكلية الجيش التركي تخلخلت بشكل غير مسبوق، جراء زج المئات من جنرالاته وآلاف العسكريين في السجون، عدا عن تحقير عدد كبير من قادته أمام الملأ، إثر الانقلاب العسكري الذي واجهه أردوغان في شهر تموز الماضي.
اللافت أن ما تضمّنه تقرير الصحيفة، تقاطع مع معلومات دبلوماسي فرنسي سابق في العاصمة العمانية مسقط، حيث رجّح أن يكون الرئيس السوري بشار الأسد، وخلال متابعته الشخصية للمعارك الدائرة في مدينة الباب، قد عمّم أمراً عسكرياً مفاجئاً، قد يكون الأصعب والأدهى الذي ستواجهه أنقرة في معركة تعتبرها "قومية" ووجودية، ومنصة انطلاق نحو ترجمة مخططها في الشمال السوري.. ليخلص في معلوماته للإشارة إلى إجماع عدد من الدبلوماسيين والسفراء الإقليميين، على أن مؤشرات قوية باتت تدل على انقلاب عسكري جديد في تركيا، يتقارب زمنياً مع أحداث مفاجئة في الولايات المتحدة الأميركية، جراء قرار خطير يزمع الرئيس دونالد ترامب اتخاذه بعد الإطاحة بمستشاره للأمن القومي مايكل فلين.