كل المؤشرات التي كانت تتحدث، قبل أشهر قليلة، عن إقتراب موعد التسوية السوريّة، بعد فوز الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الإنتخابات الرئاسية، تبدو غائبة عن المشهدين السياسي والدبلوماسي في الوقت الراهن، لا بل من المتوقع أن تشهد الساحة المزيد من التصعيد في المرحلة المقبلة، بسبب رغبة القوى الإقليمية والدولية، التي تدعم فصائل المعارضة المسلحة، في إعادة التوازن إلى ميزان القوّة، الذي اختلّ بعد تحرير مدينة حلب من جانب الجيش السوري وحلفائه.
ضمن هذا السياق، جاء مؤتمر الآستانة الثاني، الذي يعقد برعاية روسية تركية إيرانية، بين وفدين يمثلان الحكومة والمعارضة، من دون أن يخرج بأي نتائج جديدة، خصوصاً على مستوى التوقيع على وثيقة لمراقبة وقف إطلاق النار، لا بل ان بيانا مشتركا عن القوى المتنازعة لم يصدر، الأمر الذي من المتوقع أن ينعكس على نتائج مفاوضات جنيف 4 المرتقبة بعد أيام، لا سيما مع عودة الهيئة العليا للمفاوضات، التي تمثل المعارضة، إلى الحديث عن أن الرئيس السوري بشار الأسد لا يمكن أن يكون على رأس السلطة، لا في المرحلة الإنتقالية ولا في مستقبل البلاد، فما هي خلفيات هذا التحول؟
من وجهة نظر مصادر مطلعة، أي تسوية سياسية كان من المتوقع أن تعقد بعد تحرير حلب، لم يكن من الممكن أن تصب في صالح قوى المعارضة والجهات التي تقف خلفها، خصوصاً بعد الإتفاق على خروج جبهة "النصرة" من دائرة الفصائل التي من الممكن الإستفادة منها، نظراً إلى إعادة التأكيد على تصنيفها منظمة إرهابية، الأمر الذي فرض عملية الإندماج الجديدة التي قادت إلى ولادة هيئة "تحرير الشام".
وتشير هذه المصادر، عبر "النشرة"، إلى أن الجانب التركي، الذي يملك التأثير الأكبر على الفصائل المعارضة، نجح في اللعب على التوازنات الدولية لكسب المزيد من النقاط، حيث قدم أوراق إعتماده إلى موسكو من أجل السماح له بالتمدد أكثر في عملية درع الفرات، في الفترة الفاصلة بين إنتهاء ولاية الرئيس باراك أوباما وتسلم الرئيس المنتخب زمام الأمور، في ظل المعلومات التي كانت تتحدث عن أن ترامب لن يتأخر في إبرام تسوية من العيار الثقيل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين.
وتوضح المصادر نفسها أن الرئيس الأميركي الجديد خالف التوقعات، بسبب طريقة عمل المؤسسات في الولايات المتحدة، حيث الحديث عن التعاون العسكري بين موسكو وواشنطن في سوريا يتراجع، الأمر الذي أكد عليه وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، بالقول: "إن الولايات المتحدة غير مستعدة للتعاون عسكرياً مع روسيا في الوقت الراهن"، من دون تجاهل عودة ترامب إلى الحديث عن المناطق الآمنة، بالتزامن مع عودة المعلومات عن إمكانية طرح وزارة الدفاع الأميركية فكرة نشر قوات بريّة تقليدية شمالي سوريا.
وفي حين تشدد هذه المصادر على أن الإستدارة التركيّة الجديدة، التي تمثلت بفشل الجولة الثانية من مؤتمر الآستانة، تعود إلى رهان أنقرة على دور أكبر في العمليات العسكرية الهادفة إلى تحرير مدينة الرقة، التي ستقودها واشنطن من دون أدنى شك، حيث لا مصلحة لها بالذهاب إلى المزيد من التفاهمات مع موسكو وطهران قبل معرفة الخطة الأميركية الجديدة، وتلفت إلى إطلاق فصائل المعارضة مؤخراً معركة "الموت ولا المذلة"، الهادفة إلى السيطرة على حي المنشيّة الاستراتيجي في درعا البلد في الجنوب السوري، بعد الحديث عن أن الجانب الأردني يريد الإنضمام إلى محادثات الآستانة، وتضيف: "هذا الأمر لا ينفصل عن الرغبة في وقف هذا المسار التفاوضي".
أمام هذا الواقع، تجزم المصادر نفسها أن الرهان على الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف خاسر، وترى أن الساحة السورية مقبلة على المزيد من التصعيد، الذي سيترافق مع إعادة كافة القوى الإقليمية والدولية ترتيب أوراقها، بالرغم من تأكيدها بأن هناك نقاط تمثل الصورة العامة التي لا يمكن تجاوزها بأي شكل من الأشكال، وتشير إلى أن الهوة بين مختلف اللاعبيين على هذه الساحة لا تزال كبيرة، إلا أن العنوان الأبرز سيبقى الحرب على الإرهاب.
في المحصلة، لا يزال الميدان العسكري هو اللاعب الأساسي في الأزمة السورية، نظراً إلى أن معادلة التوازن القائمة لا تسمح في إبرام تسوية ترضي جميع الأفرقاء، الأمر الذي يتطلب إستمرار المساعي لتعديلها.