بينما ينصرف العرب إلى قتل العرب، تسعى إسرائيل إلى إرساء معادلات سياسية وميدانية جديدة في المنطقة، من دون أن تطلق ولو رصاصة واحدة. لم تكن الظروف ملائمة لتل أبيب مثلما هي عليه اليوم. حال الانهيار العربي، وموجة التعبئة الغربيّة ضد الإسلام وصلتا إلى ذروتهما، ما حتَّم رسم سياسات جديدة بين دول الغرب الكبرى أتاحت تسليم مقاليد الحكم عبر الانتخابات لمتطرفين لا يرون في العرب والمسلمين إلا أعداء يجب عزلهم خلف جدران عالية.
لم يكن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ليشعر أنه بحال أفضل مما صار عليه بعد الإستقبال الاحتفالي الذي قابله به الرئيس الأميركي دونالد ترامب في البيت الأبيض، على الرغم من الفضائح التي تلاحق الاثنين والتي قد تتحوّل جنائية في حق نتانياهو وتودي به إلى السجن. ومع ذلك حظي زعيم الليكود بحفاوة وبترحيب حار تجاوز الساعات الأربع، تخللته مأدبة غذاء وانتهت بمؤتمر صحافي مشترك أعلن دفن عملية السلام بين الدولة الفلسطينية القائمة شكلاً واسرائيل.
شَكلُ اللقاء الأميركي-الإسرائيلي مهم بقدر المضمون، لسبب بسيط هو أنه يحدّد من دون أي التباس العين التي تنظر بها واشنطن إلى حلفائها، فاللقاء الاحتفالي هذا جاء بعدما استقبل ترامب الملك الأردني عبدالله الثاني خلال زيارة الأخير لواشنطن. لقاء الملك استغرق بضع دقائق وفي قاعة جانبية داخل فندق كان يحضر ترامب احتفالاً فيه. دقائق معدودات تناولت عملية السلام في المنطقة و"الخطر الإيراني" والحرب على الإرهاب. العناوين ذاتها التي بحثها الرئيس الأميركي ونتانياهو.
من الطبيعي أن يكون رئيس الوزراء الاسرائيلي مرتاحاً. عبَّر عن ذلك من دون مواربة. وللمرة الأولى بعض العرب حلفاء إسرائيل من خارج نادي موقّعي معاهدات السلام معها. وقال أنه "للمرة الأولى في تاريخ إسرائيل وفي حياتي، لم تعد الدول العربية تنظر إلى إسرائيل كعدو، بل كحليف". وردَّ ترامب قائلاً: "لم أكن أعلم أنك ستتحدث عن هذا الاتفاق، ولكن نعم نسعى إلى التوصل إلى مبادرة سلام جديدة وعظيمة، ليس فقط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بل ستتضمن الكثير من الدول العربية الأخرى".
بانتظار أن يتبلور "السلام الأميركي-الإسرائيلي" الجديد علناً، من الممكن استطلاع بعض مؤشراته، وأبرزها إنهاء مبادرة قمّة بيروت عام 2002، والتي اعتمدت مبدأ الحل القائم على فكرة الدولتين التي تتبناها الولايات المتحدة منذ أيام الرئيس جورج بوش الأب. أي قيام دولة فلسطينية على حدود العام 1967 ودولة إسرائيلية. يريد ترامب مفاوضات تفضي إلى سلام بين إسرائيل المهيمنة وما يسمى بالدولة الفلسطينية التي لا حول ولا قوة لها. وهكذا سلام لن ينتج أكثر مما تسعى تل أبيب إلى فرضه ميدانياً من تعزيز الاستيطان وتوسيعه إلى تهويد القدس، وصولا إلى إصدار قانون يمنع الآذان، بعد إقرار قانون يبيح مصادرة الممتلكات العقارية الفلسطينية الخاصة في الضفة. سلام يبقي للفلسطينيين غزة المحاصرة وأراضٍ مقطعة الأوصال في الضفّة يحكمها فلسطينيون إدارياً لأن الأمن والمعابر بيد إسرائيل بالكامل.
أما القدس فعاصمة الدولة العبرية برضى أميركي مطلق. واستبق نتانياهو قرار ترامب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس بأن طالبه بالاعتراف بضم الجولان السوري المحتل إلى إسرائيل. صحيح أن الرئيس الأميركي فوجئ بالطلب إلا أنه لم يرفضه كما كان يفعل أسلافه. وهنا نكون في حال تحقق الاعتراف الأميركي، أمام أول حالة قوننة دوليّة لأراضٍ احتلّتها إسرائيل خلال حرب 1967.
الآن صرنا نفهم سبب الحرب على سوريا والعراق، وسبب شيطنة المقاومة وشيطنة الدول التي تدعمها وفي طليعتها إيران. وصرنا نفهم سبب إبقاء لبنان البلد المشرقي المسيحي العربي التعددي في حالٍ من حرب داخليّة باردة، وصار مفهوما أكثر سبب السعي الدائم لإقصاء العماد ميشال عون العروبي المقاوم عن السلطة. لم نكن بحاجة لنشر وثيقة لـ"وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية" (سي أي إيه) تعود للعام 1986 وتتحدث عن خطّة لاطاحة النظام السوري الذي يواجه إسرائيل بسيناريو مطابق لما نشهده منذ العام 2011. أي عبر تحريض مذهبي واستيراد مقاتلين من الخارج.
دولة الإحتلال ومن يحميها لا يريدون سلاما ولا يريدون من يذكِّر بحق العودة وبالقدس المحتلة مهد المسيحية وقبلة المسلمين. تل أبيب لا تريد سلاماً. تريد تفجير قنبلة اللاجئين الفلسطينيين في الدول التي تحضنهم ولبنان منها. هي تعتبر أن مع الانهيار العربي بات بالإمكان، لا دفن احتمالات التسوية العادلة مع الفلسطينيين وحسب، بل دفن القضية الفلسطينية من أساسها. لكن مسار المقاومة من لبنان إلى فلسطين بمشاركة المسلمين والمسيحيين، والعمليّات الفردية التي تتزايد يوما بعد يوم مع شباب ولدوا بعد الاحتلال تؤكد أن الحرب لا تزال مفتوحة وأن الحق الفلسطيني لن يموت. وستبقى نزعة الإلغاء والعنصرية الإسرائيلية لطخة سوداء على جبين العالم الحر، تستنهض المقاومة في كل يوم ومكان.
التراجع عن حل الدولتين، وهو، حلٌ مجحف بحق الفلسطينيين، سيؤكد عما قريب أن الغطرسة تدفع الدول ولو كانت كبرى إلى مغامرة سياسية غير محسوبة تعيد تثبيت البوصلة إلى حيث الاتجاه الصحيح... فلسطين.