لا تعدّ طريق القداسة بسهلة، وطريق الراهب اللبناني المخلصي بشارة أبو مراد كانت مليئة بالتعبّد والصلاة والتقشّف والشغف الى حبّ الله الآب، وتكريس حياته له في أديرة عدّة مرّ بها، كان آخرها دير المخلص في جون حيث دفن في حائط الكنيسة وليس في مدافن الرهبان كما تقتضي العادة.
النشأة والدخول الى الدير
ولد الأب بشارة أبو مراد عام 1853 في زحلة ورث عن والديه جبور واليصابات حرارة إيمانهما الصلب فنشأ قوي الارادة، متمسكاً بواجباته الدينية، متمماً لوصايا الله وخاضعاً لوالديه، ومحباً للصلاة الى جانب اخوته وأخواته. على مثال الطفل يسوع، كان الطفل سليم (الإسم الحقيقي للأب بشارة أبو مراد) ينمو في الحكمة والنعمة أمام الله والناس، متأثرا عميقاً بِمُثُلِ والدته متشبعاً من تعاليمها، فظهر فيه منذ صغر سنه ميول قويّة الى الصلاة وحنين الى الصمت والإختلاء.
رغبة سليم في الحياة الروحيّة أخذت تنمو وتعمقت في نفسه بتأثير مناخ البيت وجوّ المدرسة، ورسّخت التقوى في داخله فإنبعث صوت الله في أعماقه يدعوه الى حياة أكمل. وهنا يروي رئيس دير المخلص الأب نبيل واكيم حادثة حصلت مع الأب بشارة أبو مراد قبل دخوله الرهبانية، فيشير الى أنه "هرب في احدى الليالي الى الدير لدخوله ولكن وبعد إكتشاف والده للمسألة الّذي رفض رفضا قاطعًا، أعاده الى المنزل، فما لبثت الأم الا أن تدخّلت لإقناع زوجها، وهكذا حصل فدخل سليم دير المخلص عام 1874 في الشوف، ومن حينها أصبحت الكنيسة فردوسه الخاص والقربان المقدس غذاءه المشتهى، وكأن داخله كلّه قد استحال الى معبد صلاة لا تفتر، والى انشاد بمجد الله وشكره في كل عمل يتمّمه".
فضائله وتكريمه لمريم
آثر الأب بشارة أبو مراد الخدمة الخفيّة شعاراً له، فكان يتهرّب من الظهور ولم يكن قبوله سيامة كشماس الإنجيلي في 26 آذار 1882 الا بدافع الطاعة الكاملة، لرؤسائه لا رغبة فيها، كما يذكر الأب نبيل واكيم. لافتاً الى أن "بشارة أبو مراد كان عميق الإقتناع بأنه غير مستحق لدرجات الكهنوت، وقد تملكته رغبة عميقة عندما فوتح بأمر سيامته كاهناً مع رفاقه، فقد كان يحمل في أعماق نفسه إجلالا سامياً لدرجة الكهنوت، ويعدّ ذاته دون قدرها، وطلب الى رؤسائه مرارا تأجيل تقديمه الى السيامة مبرراً موقفه أحياناً، "أنا ما جئت الى الرهبانية لا لأخلص نفسي لا لكي أَرْتَسِم" لكنه سِيمَ في 26 كانون الاول 1883 كاهناً، ليتسنى له أقامة الذبيحة لراحة نفس أخيه مراد".
توفي الأب بشارة أبو مراد في سبت الأموات في شباط 1930 وأسلم روحه في دير المخلص وهو محاطٌ بإخوته في الرهبانية. وهنا يشير الأب الدكتور في اللاهوت نضال الجبلي الى أن "بشارة أبو مراد لم يكن الراهب الناسك البعيد عن الناس بل كان موجوداً في العالم، وبين أهله وقد كان متفوقاً في حياته الرهبانية والروحية"، ولفت الى أنه "كان مكرّمًا للعذراء مريم ويصلّي المسبحة الورديّة بإستمرار ويحملها في جيبه في كل تجوالاته، بالإضافة الى أنه كان متعبّداً لله في الأفخارستيّا، فكان يبقى ساجداً أمام القربان المقدّس".
دعوى التطويب
يتحدّث الأب نضال الجبلي عن بطولة فضائل الأب بشارة أبو مراد. لافتا الى أنه "عندما أسلم روحه في العام 1930 قامت الرهبانية المخلصيّة بكتابة سيرة حياته وفضائله". ويسهب الأب جبلي في الشرح لماذا لم تلاحق الرهبانيّة المخلصيّة دعوى تطويبه في الكرسي الرسولي بعد وفاته ليشير الى أن السبب هو اندلاع الحرب العالمية الثانية، ومن ثم الزلزال الذي ضرب جنوب لبنان فيما بعد"، ويوضح أن "دعوى التطويب فُتِحت في العام 1982 ووصلت الى الدوائر الفاتيكانية في العام 2006، ولو لم تبحث هذه الدوائر في بطولة فضائله لما أُعلن مُكَرَّمًّا(1)في العام 2010"، كاشفاً أن "إحدى العجائب حصلت مع إمرأة من عبرا وقد كانت مشلولة وبشفاعة الأب بشارة أبو مراد عادت لتمشي من جديد وقد قُدِّمت التحقيقات والوثائق الى الدوائر الفاتيكانية لمتابعتها وتحليل جميع المعلومات الواردة فيها، حيث من المتوقّع عند الانتهاء منها وتثبيتها أنْ يُعلن طوباويًّا. وبالطبع سيحتاج مسار التقديس بعد التطويب الى أعجوبة جديدة".
ويبقى الانتظار حتى تقرّ أعجوبة امرأة عبرا ليعلن جراءها الأب بشارة أبو مراد طوباوياً(2)وعلى مسيرة القداسة(3)في وقت أشدّ ما يحتاج فيه لبنان الى شفاعته!
(1)لاعلان خادم الله مكرّمًا يتم تشكيل لجان أبرشية من متخصصين في مجال المتابعة اللاهوتية والتاريخ، لدراسة حياة "خادم الله" بطريقة مفصّلة لا لُبس فيها، تهدف إلى التثبّت من عيشه لفضائل الإيمان والرجاء والمحب والأخلاق المسيحية وغيرها. ومتى تمّ التأكّد من ذلك، بعد تحقيقات طويلة ومضنية تُحرّر وثيقة تدعى باللاتينية "Positio" تتضمن مُلخصًّا عن سيرة خادم الله ومسيرته تُرسَل إلى مجمع دعاوى القديسين في روما. واذا وافق عليها، بعد التدقيق والتمحيص والّذي قد يستمر سنوات طويلة، يصدر إقرارا ببطولة الحياة التي عاشها خادم الله، جاعلاً منه بذلك "مُكَرَّمًا.
(2)المرحلة التالية، بعد اعلان خادم الله مُكرّمًا، والّتي تُعتبر مرحلة شاقّة وطويلة وتتطلّب تحقيق معجزة خارقة فوق العادة، فورية ودائمة متكاملة ولا يمكن تفسيرها علميًّا لاعلان المكرّم طوباويًّا. ويتمّ التحقيق بهذه المعجزة في الرهبانيّة مع أشخاص من ذوي الاختصاص من أطبّاء ورهبان وشهود لتُرفع فيما بعد الى مجمع دعاوى القدّيسين، فيجتمع الكرادلة والأساقفة المتخصّصين لاصدار براءة التطويب. وهذا الأمر قد يستمرّ لسنوات طويلة جدًّا.
تجدر الاشارة الى أن الاعتماد على معجزة خارقة قد يحصل في إطار غير الشفاء من مرض، كنجاة من موت محتّم يحصل بتدخّل الله المباشر بطلب الشخص لشفاعة الطوباوي.
(3)إنّ مرحلة اعلان الطوباوي قدّيسًا، تتطلّب المرور بنفس المراحل الّتي تَرِدُ في متطلّبات اعلان التطويب من معجزة خارقة للطبيعة وغير مفسّرة انسانيًّا وعلميًّا. وعلى غرار ما يحصل في مراحل التطويب من تأليف لجان من الخبراء الطبيين واللاهوتيين والشهود للتأكيد على صحة المعجزة، تسير مرحلة التقديس أيضًا، وهي المرحلة النهائيّة الّتي ولدى اعلان البابا عن تقديس الطوباوي، يُسمح بتكريم القدّيس على مذابح الكنيسة الكاثوليكيّة الجامعة في أنحاء الكرة الأرضيّة كافّة، لا سيّما أن الطوباوي يُسمحُ بتكريمه في بلده وعلى مذابح كنيسته المحليّة فقط.