مع وصول الرئيس ميشال عون إلى قصر بعبدا، حُكي الكثير عن "مصالحةٍ" ستتمّ بينه وبين حليفه السابق رئيس "تيار المردة" النائب سليمان فرنجية، بعدما فرّق التنافس الرئاسيّ بينهما، وحُدّدت مواعيد لهذه المصالحة، كما رُسِمت "سيناريوهات" لها، ولكيفيّة خروجها إلى الضوء.
لكن، بعد أكثر من شهرين ونصف على الواقعة الرئاسية، لم يتغيّر شيء. لم يحطّ فرنجية في قصر بعبدا لا بمفرده، ولا برفقة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، ولا رئيس المجلس النيابي نبيه بري أو غيره.
أكثر من ذلك، فإنّ أيّ خطّ تواصل جدّي لم يُفتَح بين الجانبين، بل، على العكس من ذلك، توحي كلّ المؤشّرات أنّ الأمور ذاهبة إلى مزيدٍ من التأزّم والتوتّر، وهو ما لا تؤكّده التسريبات المنسوبة لمصادر هذا الفريق أو ذاك فحسب، بل تصريحاتٌ رسميّة لا تحتمل اللبس، وإن اعتمدت أسلوب الغمز!
مؤشرات سلبية...
من الواضح أنّ العلاقة بين "التيار الوطني الحر" و"تيار المردة" لم تعد إلى قواعدها سالمة بعد انتهاء معركة الرئاسة، وإن اعتبر النائب سليمان فرنجية أنّ الخطّ السياسي، الذي يمثّله، هو الذي انتصر بانتخاب العماد عون رئيسًا. وبقي الإجماع الذي حظي به الرئيس عون، حتى من قبل خصومه ممّن أصرّوا على عدم السير بتسوية انتخابه لكنّهم عادوا ومنحوه "مهلة سماح"، منقوصًا، طالما أنّ الجرّة التي كُسِرت مع رئيس "المردة" بدت غير قابلة للترميم.
ورغم كلّ الإيجابية التي حاول البعض من "سعاة الخير" فرضها على العلاقة بين الجانبين، فإنّ كلّ الجهود التي بُذلت للتقريب بينهما باءت بالفشل، وبقيت المؤشرات السلبية هي الطاغية على ما عداها. وخير دليلٍ على ذلك السجال الإعلامي المباشر الذي دار بين النائب فرنجية من جهة ورئيس "التيار الوطني الحر" وزير الخارجية جبران باسيل، حين وصف الأول مشروع قانون الانتخاب المختلط المطروح من الثاني بـ"المعقد"، فردّ عليه الأخير بقوله أنّه "يتفهّم" أن يكون هناك من "لا يفهم بالأرقام".
وعلى الرغم من أنّ هذا السجال أكثر من واضحٍ في معانيه ودلالاته، إلا أنّ ما صدر قبل أيام عن القيادي في "المردة" الوزير السابق يوسف سعادة، المعروف بقربه من فرنجية، أتى ليزيل أيّ "التباسٍ" يمكن أن يكون قد نشأ لدى البعض، حين تحدّث عن "عقلٍ واسعٍ وخلاق يتسلق المنابر ويملأ الشاشات، ويفرّخ كلّ يوم قانوناً على قياسه"، وشبّهه بـ"الطاووس"، وكان من الواضح أنّ باسيل تحديدًا هو المقصود بحديث سعادة، وإن حرص على عدم تسميته.
وتُضاف كلّ هذه المؤشرات إلى ما يُعتبَر من قبل الجانبين بالمؤشر الأبرز الذي حكم باستمرار العلاقة المتردية بينهما، حين "قاطع" النائب فرنجية الاستشارات النيابية في قصر بعبدا، في "سابقة" من نوعها، الأمر الذي لم يقرأ فيه "التيار" سوى "رسالة سلبية جداً" في وجه "العهد"، وقد تُوّجت بعدم تلقّف رئيس "المردة" لما يصفه بمبادرة "حسن النوايا" التي صدرت عن الرئيس عون، حين أعلن أنّ أبواب بعبدا مفتوحة أمام الجميع.
القرار اتُخِذ...
انطلاقاً من كلّ ما سبق، يبدو واضحًا أنّ القرار بالتصعيد لا المهادنة هو الذي اتُخِذ، لتصبح "المصالحة" بين الجانبين أمراً مؤجّلاً في أحسن الأحوال، إن لم تكن قد باتت في غياهب النسيان، أقلّه حتى حدوث انقلابٍ ما في المعطيات في الداخل اللبناني.
ولعلّ ما يؤكّد هذه الخلاصة اعتبار كلّ من "التيار الوطني الحر" و"تيار المردة" أنّ الكرة باتت في ملعب الجانب الآخر، فـ"التيار" يعتبر أنّ رئيس الجمهورية أدّى قسطه للعُلا حين وجّه رسالته المفتوحة الشهيرة، والتي فهم القاصي والداني أنّ فرنجية تحديداً كان المقصود منها دون غيره، وهو يرى أنّه لا يمكن أن يقدّم أكثر ممّا قدّمه على هذا الصعيد، وأنّ أحداً لا يمكن أن يطلب منه ما يتخطى ذلك. وفي المقابل، لا يعتبر "المردة" أنّ مثل هذه الرسالة من شأنها "التكفير عن الذنوب" التي ارتُكِبت إبان المعركة الرئاسية، وهو يرى أنّ الأمور كان يمكن أن تُحَلّ بيُسر لو كان هناك إرادة حقيقية بذلك، سواء من خلال دعوةٍ رسمية لن يفكّر "بيك زغرتا" مرّتين قبل تلبيتها وفق الأصول، أو اتصال كسر جليد، لا أكثر ولا أقلّ.
أما وقد حصل ما حصل، فإنّ الجانبين لا يعتبران اللقاء بين عون وفرنجية أو المصالحة بينهما أولوية بأيّ شكلٍ من الأشكال، خصوصًا على عتبة الانتخابات النيابية، المفترض أن تحصل في شهر أيار المقبل، إن لم يتمّ التمديد للمجلس النيابي. وهنا، لا يخشى "المردة" أن تنعكس برودته إزاء رئيس الجمهورية، ومن خلفه "التيار الوطني الحر"، سلباً على واقعه الانتخابي، رغم إدراكه أنّ الثنائية المسيحية المستجدّة، الممثلة بـ"التيار" و"القوات اللبنانية"، تسعى جدياً لعزله وإقصائه، شأنه شأن غيره من القادة المسيحيين خارج إطارها، وهو ما يتجلى بمشاريع القوانين التي يطرحها هؤلاء، والتي تفتقد لأيّ معايير واضحة وموحّدة.
ولعلّ ما يريح فرنجية أنّ "حصانة" تجعله بمنأى عن هذا "الاستهداف"، تتمثّل بـ"الحلف المتين" الذي يجمعه بكلّ من "حزب الله" و"حركة أمل"، وهو يدرك أنّ هذا الثنائي يعتبره "خطاً أحمر"، وهو لن يقبل بالتفريط بموقعه ودوره بأيّ شكلٍ من الأشكال، خصوصًا أنّه، بخلاف "التيار"، يقدّر لفرنجية "التضحية" التي قدّمها رئاسيًا، حين "وصلت اللقمة إلى فمه"، وأبى التنعّم بها من دون "مباركة" الحزب، من دون أن ننسى أنّ فرنجية مطمئنّ للحيثية التي يمثّلها في عرينه "الزغرتاوي"، والتي يصعب على أيّ فريقٍ إنكارها.
أبوّة فخصومة...
في يومٍ من الأيام، كان الرئيس ميشال عون هو "الأب الروحي" للنائب سليمان فرنجية. لكنّ الوضع تغيّر اليوم. قد يكون الأب هو من فضّل مصلحته على مصلحة الابن، أو الابن هو من تمرّد على والده، لا فرق، ففي الحالتين، الطلاق وقع، والخصومة حلّت مكان الأبوّة.
لا شكّ أنّ الجهود لرأب الصدع ستستمرّ في القادم من الأيّام، ولكنّ الأكيد أكثر أنّ أيّ "مصالحة"، وإن حصلت، ستبقى شكليّة، لأنّ ما فرّقته الانتخابات الرئاسية، بات أكبر من أن تقدر على ترميمه "الوساطات"، مهما كبر حجمها...