نتأمَّل، في هذا الأحد المبارك، الذي تطلق عليه الكنيسة أحد مدخل الصوم أو أحد عرس قانا الجليل (يوحنَّا 2، 1-11)، بالعلاقة بين الصوم والعرس. الصوم، كما نعرف، هو زمن الألم والتقشُّف والابتعاد عن ملذَّات الأكل والمشرب بشكل خاص، فكيف تبدأ الكنيسة بإنجيل يتحدَّث عن عرس حيث المآدب والأفراح تغلب على صور التقشُّف؟ فهل هناك من رابط روحي بين ما جرى في هذا المقطع من الإنجيل وبين ما يجري خلال الصوم؟
لا شكَّ في أنَّ الرابط بين عرس قانا الجليل وبين زمن الصوم هو فرح القيامة، فالصوم الذي ينتهي بأسبوع الآلام ثم الصليب، أشبه ما يكون بالاستعداد ليوم الفرح، الذي يراه الإنسان مركزيًّا في حياته. فالصوم هو تحضير النفس استعدادًا للمشاركة بمجد القيامة، فيكون الصليب الذي تختتم فيه الكنيسة زمن الصوم، هو عرس البشريَّة التي غلبت بالمسيح الموت والخطيئة والشيطان، ودخلت به العرس السماوي الذي لا ينتهي.
1- عامَّة الشعب
لاحظنا من خلال كلام الإنجيل أنَّ الشعب الذي حضر العرس لم يكن له من دور إلاَّ الشهادة على ما يجري، فهو سمع الكلام الذي دار بين المدعوِّين الأساسيِّين، كذلك شهد على معجزة تحوّل الماء إلى خمر وعلى كلام المسيح عن الساعة، فالشهادة أمر ضروري إذ تقوم عليها البشارة.
2- رئيس المتَّكأ
يمثِّل رئيس المتكأ العقليَّة السائدة في المجتمع اليهودي الذي ينتظر الحدث الأهم أي مجيء المسيح، لكنَّه لم يعرف، على الرغم من حضوره العرس، أنَّ المسيح موجود ويشارك فرح اليهود بالعرس ويعمل على كماله.
قال رئيس المتكأ، حين شرب من الخمرة الجديدة متوجِّهًا بكلامه إلى ربِّ البيت: "عادةً يقدِّمون الخمرة الجيِّدة أوَّلاً وإذا سكر الجميع يقدِّمون الخمرة الدون". يرمز هذا الكلام إلى حقائق موجودة في الديانات والحضارات كلِّها وحاولت منح البشر بعضًا من التفسير حول التساؤلات عن الحياة والموت والألم والفرح والسعادة والبقاء بعد الموت، لكنَّها لم تصل حقيقة إلى إعطاء جواب واضح مبني على تجربة، لذلك ظلَّت تنتظر من يأتي ويعرّفها على الحقائق ويؤمِّن لها الخلاص من واقع الألم والقلق الذي تعيشه. هذا الذي سيأتي هو الخمرة الجديدة لأنَّ الخمور القديمة جميعها لم تفِ بالغرض.
3- تدخُّل الله يجعلنا نحيا الفرح الحقيقي
قلنا إنَّ جميع ما في الأرض من أمور طبيعيَّة أو نتاج العقل البشري أفشل من أن يصل بنا إلى السعادة، لذلك رأينا في عرس قانا الجليل كيف تدخَّلت مريم العذراء مع ابنها الإلهي كي ينظر إلى نفاذ ما صنعه الإنسان ووصول العرس إلى حدّ الانقطاع عن الفرح. وعندما امتلأت الأجاجين خمرة لا تنفد ولم يذق مثلها الحاضرون وبخاصَّة رئيس المتَّكأ، الذي يُفْترض أن يكون مسؤولاً عن فرح الجماعة الأرضيَّة، كالمسؤول وسيِّد القوم ورئيسهم ومدبّر شؤونهم، فإذا بنا نراه بعدما ذاق تدخُّل الله من أجل كمال فرحنا، يقرّ بعجزه عن فعل ما فعله السيِّد، وبجهله لكيفيَّة هذا الفعل، لذلك وجب عليه كمسؤول وعلينا كتابعين، أن ننتظر دومًا مبادرة الله في حياتنا، كي يكتمل فرحنا هنا على الأرض وهناك في العالم الآتي.
4- المسيح
يعترض البعض على أسلوب المسيح في كلامه مع أمِّه: "يا امرأة ما لي ولك، إن ساعتي لم تأتِ بعد"، لأنَّه قال: "يا امرأة". الحقيقة أنَّ المسيح باستعماله كلمة "يا امرأة" يردُّنا إلى المرأة الأولى أي حوَّاء التي أتت بالويل على العالم بعدما خطئت، وجعل من مريم أمِّه حوَّاء الجديدة، أو المرأة التي لم تخطئ والتي ولدت المسيح الذي هو سبب سعادة الناس وفرحهم الدائم، إنَّها أُمّ الخمرة الجديدة.
5- مريم العذراء
"لم يعد لديهم خمر" هذه العبارة لمريم العذراء تدلّ على وعيها المشكلة المحليَّة في العرس، واعتبار نفسها سيِّدة المنزل، فقد نفد الخمر ومن الضروري أن يؤتى بخمر لإكمال العرس، كذلك وعيها المشكلة العالميَّة للبشريَّة التي فقدت فرحها وسعادتها بعدما استنفدت أسباب الفرح ولم تصل إليه، فدعت إبنها يسوع، الذي هو المسيح الذي سيعيد الفرح إلى العالم ويزيل عنه القلق، ليباشر عمله الذي تجسَّد لأجله، وعندما أجابها: "ما لي ولك يا امرأة" لم تتوقَّف عند هذا الجواب بل أمرت الخدم قائلة: "إفعلوا ما يقوله لكم"، كأنَّها كانت على يقين بأنَّه سيبدأ عمله الخلاصي. هكذا وجَّهت أنظار الناس إليه لأنَّه هو المخلِّص.
6- اختيار العرس والوليمة كمدخل للصوم
يشير اختيار العرس عمومًا إلى الفرح، بقطع النظر عمَّا إذا كان هذا الفرح محصورًا في الأرض أم أنَّه يرمز إلى فرح السماء. يعني اختيار هذا الحدث الأرضي، الذي يفترض الأكل والشرب والرقص وغيرها من مستلزمات أفراح الأرض، ووضعه في مدخل الصوم، من جملة ما يعني، مباركة الله لخيرات الأرض التي خلقها لينعم بها الإنسان طيلة عمره. غير أنَّ هذا كلَّه لا يجوز أن يستنفد فكر الإنسان وتأمُّلَه بمصيره ومصير من سبقه على الأرض. فيبقى، على الرغم ممَّا يجذبه إلى جمال الأرض ومتاعها، واضعًا نصب عينيه غايته القصوى، أي الحياة إلى الأبد في النعيم الأبوي حيث تسقط كلُّ ملذَّات الأرض وأفراحها، ليدخل الإنسان عالمًا جديدًا فيه من السعادة ما يفوق كلَّ ما يعتقد أنَّه قادر على الوصول إليه عبر وسائل الأرض.
وكما الأكل والشرب والأعراس، كذلك كلُّ أحلام الإنسان عبر الزمن، التي جعلته يعتقد بأنَّه قادر على إسعاد نفسه بوسائله الخاصَّة أو بمبتكراته العقليَّة أو العلميَّة أو التكنولوجيَّة التي أثبت الزمن أنَّها كلَّها مؤقَّتة، وهي وإن أدَّت إلى سهولة الحياة فهي أعجز من أن تصل به إلى السعادة التي أعدّها الله للإنسان. من هنا ضرورة أن يتدخَّل الله في مصيرنا ومسارنا كي نصل بنعمته إلى حيث لم يخطر على قلب بشر.