ندخل زمن الصوم الذي يستمرّ من إثنين الرماد إلى سبت النور ويستلزم مسارًا جديدًا يحمل، إلى جانب الممارسات الطقسيَّة، تحوُّلا روحيًّا يجعل من الصوم فاعلاً في النفس والقلب والعقل كما يفعل في الجسد عبر نوع المأكل والمشرب، لذلك لا بدَّ من التذكير، في بداية هذا الصوم بالأمور التالية:
1- الصوم عن تناول الطعام منذ منتصف الليل لغاية ظهر اليوم التالي
معناه الحصري الانقطاع عن تناول الطعام منذ منتصف الليل لغاية ظهر اليوم التالي. مهما يقوم به المؤمنون، عدا ذلك، من انقطاع عن التدخين وشرب القهوة والمشروبات وما شابه، من دون الانقطاع عن تناول الطعام، يدخل في إطار العبادة الخاصة أوما يسمَّى بالإماتة.
أمَّا المعنى الروحي للصوم، فيرتبط بالحكم الذي أصدره الله بحقِّ آدم بعد الخطيئة وهو "بعرق جبينك تأكل خبزك"، بالتالي الانقطاع عن تناول الطعام هو اشتياق الإنسان إلى التخلُّص من هذا الحكم عن طريق التوبة والاستغناء عن أمور الدنيا للتفرُّغ لما هو للآخرة.
هذا الأمر مطلوب بشكل إلزامي يومي إثنين الرماد والجمعة العظيمة، إلاَّ اذا رأت السلطة الكنسيَّة خلافًا لذلك. أمَّا مَن يصوم من إثنين الرماد لغاية سبت النور فأجره مقبول عند الله ويأتي فعله من باب الرغبة القلبيَّة بالأمر وليس من باب تنفيذ الوصيَّة فحسب.
هنا يبرز السؤال: كيف يحق لنا أن نصوم الإثنين والجمعة فحسب بينما تقول الوصية: "صُمْ الصوم الكبير وسائر الأصوام المفروضة"؟ الجواب: لمَّا كانت وصيَّة الصوم من وضع السلطة الكنسيَّة، من حقِّ الكنيسة تعديل الوصايا التي وضعتها، فهي التي تأمر وهي التي تنهي عن الأمر، وهذا الإعفاء لا علاقة له برغبة الشخص في العمل التقوي والصوم والصلاة طيلة أيَّام الصوم عملاً بكلام المسيح: "صلُّوا ولا تملُّوا".
2- القطاعة
هي الانقطاع عن تناول اللحوم على أنواعها، سواء كانت من الطيور أو المواشي، وذلك كل يوم جمعة طوال الصوم عدا القطاعة المطلوبة طوال السنة، باستثناء الزمن الممتدّ من القيامة إلى العنصرة حيث يعفى المؤمن من القطاعة.
أمَّا المعنى الذي تعطيه الكنيسة للقطاعة فيقسم إلى قسمين: سبب تضامني اجتماعي، إذ تطلب الكنيسة أن يتضامن المؤمنون الميسورون مع الأشخاص الذين قست عليهم ظروف الحياة. فيعطي الميسورون ما كان يجب أن يأكلوه من طيِّبات الأرض والحيوان يومي الأربعاء والجمعة، الى الفقراء، فيستفيد هؤلاء ولا يقعون في سوء التغذية، كما يستفيد أوَّلئك ولا يقعون في التخمة.
وسبب روحي، ذلك أنَّ القطاعة تعني اشتياق الإنسان إلى زمن ما قبل الخطيئة حيث كان آدم يقتات في الجنَّة من عشب الأرض وثمر الشجر، ولم يكن يزهق روح الحيوان ليعيش هو، من دون أن يكون تناول اللحوم خطيئة بحدِّ ذاته، لأنَّ الله حرَّرنا من هذه القيود في العهد الجديد وطلب إلينا أن نتناول جميع ما أعطاناه نباتًا كان أم حيوانًا.
3- التَقويَّات والحياة الروحيَّة
لمَّا كان الصوم زمن التوبة والتقوى بامتياز، مع أنَّ المطلوب من المؤمن أن يعيش هذه الفضائل طوال عمره، تطلب الكنيسة من أبنائها عيش هذا الزمن في القلب والنفس والعقل كما في الممارسات الخارجيَّة، كالصلوات الرعائيَّة وساعات السجود والسهرات الإنجيليَّة وزيارة المرضى ومساعدة المحتاج وكلِّ ما يساعد النفس على التخلِّي عمَّا يغرقها في أمور الدنيا، لترتفع إلى السماء توقًا لعيش ملكوت الله في هذا العالم، قبل دخول الفرح الدائم في العالم الآخر.
4- الحشمة
تشمل اللباس والكلام والهوايات والمشاهدات السينمائيَّة وكلَّ ما يلهي النفس عن تطلّعها إلى غايتها القصوى، أي الحياة الإلهيَّة. لذلك تطلب الكنيسة من أرباب البيوت ومن ربَّاتها ومن الراشدين كافَّة المراقبة الذاتية على كلِّ ما ذكرنا، تجنُّبًا للسقوط في الخطيئة، وعلى الشباب والشابات، الذين هم أمل الكنيسة ومستقبلها، أن يهتمُّوا بصدق وحريَّة بهذا الموضوع، من دون خجل أو انجراف خلف الموضة التي لا تقيم حرمة لكرامة الإنسان.
5- الرماد
معناه الحصري وضع رماد مستخرج من زيتون الشعانين على الرأس والجبين. وقد يتَّسع هذا المعنى إعلانًا للتوبة بالجلوس والتمرُّغ في الرماد. أمَّا المعنى الروحي فهو تذكير الإنسان بأنَّه "تراب وإلى التراب يعود" وعليه ان يعمل ليس للقوت الفاني فحسب، بل للقوت النازل من السماء، وما صورة الرماد إلا صورة العظمة والمجد التي نحياها في الشعانين، وقد أصبحت رمادًا تعبث به الرياح تطبيقًا لآية الكتاب: "وما عمرنا إلا كالهباء أمام الريح". وقد كانت عادة الجلوس على الرماد ورشِّه على الرأس، موجودة عند الشعوب كلِّها وبخاصَّة عند اليهود، يمارسونها طلبًا لرحمة الله وغفرانًا لذنوبهم والتماسًا لعطفه.