"الذي أخذ عاهاتنا وحمل أوجاعنا، فحسِبْناه مصاباً بالبرص مضروباً من الله ومذلّلاً... جُرِحَ لأجل معاصينا... فألقى الرب عليه إثم كلّنا" (أشعيا 53/4-6)
صحيحٌ أنّ فعلَ الصوم مشترك عند جميع الأديان، إلاّ أنّ الطوائف المسيحيّة تمارس الصوم المقدّس بروحانيّة مختلفة عن كلّ ما عداها: فعند الكلدان تتمحور السنة الطقسية حول "الخلاص من الربّ"، يدخل المؤمن الخلاص بالسير مع خطى المسيح. ويركّز الأرثوذكس في صيامهم على طابع الفرح في الصوم، والدخول من باب التوبة. فالصوم عبورٌ من الولادة البشريّة إلى الولادة المسيحيّة. أمّا عند اللاتين فيأخذ الصوم معنى التحرّر من الخطيئة، ومن ضعف الجسد الفاني، والتسلّح بمفاعيل العماد وثمار الروح. أمّا الموارنة، الذين سنشدّد على صيامهم في هذا التأمل، فيركّزون خلال صومهم الأربعينيّ على عيد الفصح وقيامة المسيح، من خلال التأمّل في أناجيل الآحاد طوال الصوم خاصة أحدَي العجائب. فبما أنّ المسيح هو قاعدة صومِنا، فعلى المؤمنِ الالتزامُ بالإيمان بيسوعَ المسيح الطبيبِ، والشافي، وغافر الخطايا، ومحيي المائتين، والمنتصر على الموت والشيطان والخطيئة.
لذا سنتأمل، في هذا النص، في الصوم الكبير ومعانيه مع معاني آحاده السبعة عند الموارنة.
معنى الصوم
المعترف به عامّةً أنّ الصوم هو الإمساكُ عن الطعام والشراب لفترة من الزمن بهدف الاقتراب من الله في توبة وإيمان. في الكتاب المقدس، عادة ما يجتمع الصوم مع الصلاة والصدقة. (Vitamin "ص": صوم، صلاة وصدقة). فالجوع والتعب يجعلاننا «فقراءَ بالروح» وَاعين أن وجودَنا يتعلّق بالله وبمعونته. فالصوم الكبير (نسبة إلى باقي الأصوام قبل الأعياد والمتعيّدات)، هو أوّلا مسيرة روحيّة نحو الله والإنسان. وهو أيضًا مسيرة صوم وتوبة وتقشّف وإماتة، وأخيرًا هو مسيرة أعمال رحمة ومحبة. الصوم الكبير هو امتلاء من المحبّة لله وللناس، وزمن انفتاح القلب واليد على الأخوة الفقراء والمرضى والمحتاجين. إنَّ ما يوفّره كلّ منّا خلال صومه من قطاعة وإماتات هو بنوع خاص للتصدّق به على الدّون. محبّة الفقراء وخدمتهم ومساعدتهم تكمّل الصوم والقطاعة وترفعهما من مستواهما المادّي إلى سموّ المحبّة الاجتماعيّة. فالقديس يوحنا الذهبيّ الفم يحدّثنا عن الصوم كوسيلة تساعد الإنسان على مراقبة حواسه والسيطرة عليها: "الصَّوم يقتضي الكفَّ عن الخطايا. لا يُضبط الفم فحسب بل وأيضاً العينان، الأذنان، اليدان، وأعضاءُ الجسد كلُّها" (القدّيس يوحنا الذهبي الفم).
فالصوم إذًا ليس ضدّ الجسد بل هدفُهُ تهذيب الجسد. عندما نصوم لا نزدريه بالطعام بل نحاول جعلَه روحياً سرّياً أفخارستيا. ففي كلتا الحالتين "الروح" يشير إلى الإنسان ككلّ، نفساً وجسداً من حيث هو مُفتدَى ومؤلَّه بالنعمة و"الجسد". ويشير إلى الإنسان ككلّ نفساً وجسداً من حيث هو ساقطٌ ومنفصلٌ عن الله. ولكن في النعمة يتّحد الروح والجسد معًا ليخلصَ الإنسان كوحدة كاملة غير منقسمة. أمّا بولس في رسالته إلى أهل غلاطيه، فيحدّد أعمال الجسد وأعمال الروح كالآتي: "أعمال الجسد ظاهرة وهي الزنى، العهارة، النجاسة، الدعارة، عبادةُ الأوثان، السِحْر، العداوة، الخصام، الغَيْرة، السخط، التحزّب، الشقاق، بدعة الحسد، القتل، السكر، البطر… أمّا ثمار الروح فهي المحبّة والفرحُ والسلام وطولُ الأناة واللطفُ والصلاح والإيمان والوداعة والتعفّف. (غلا 5: 19–23).
محاذير ممارسة الصوم
للصوم عدّة أخطار يقع فيها المؤمن من دون أن يشعر، ويقلّل ذلك من قيمة صومه أو جرّه إلى الانحراف عن الهدف المنشود. أوّلًا، علينا التنبّه من خطر المتمسّكين بالشكليّات والاكتفاء بها، والمستمرّين في طريق الشرّ والانحراف. فالصّوم لهؤلاء يبقى أمرًا شكليّا لا تأثير له على توبة القلب والإصلاح. فهذا لا يساعد التائب على تقدمّه الروحيّ، بل يكبّله في الشكل من دون العبور إلى المضمون.
كما علينا التنبّه ثانيًا من خطر الكبرياء والتظاهر، فيكون الصوم للتباهي، فيما داخل القلب متحجّرٌ بالحقد والنوايا السيّئة. ليست فترة الصوم فترة عبوسٍ، بل فترة فرح حزن التائب، حزنٌ يؤولُ إلى فرح. "عندما تصومون انظروا أن لا تكونوا في خصومة أو مشاجرة مع الناس الآخرين، بل اجعلوا حدّاً لكلّ ظلم طارئ" (أشعيا58: 4-6). من هنا أيضا دعوة السيّد المسيح إلى الصائم قائلا: "ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين، فإنهم يغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين. الحق أقول لكم: إنهم قد استوفوا أجرهم، وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك، لكي لا تظهر للناس صائما، بل لأبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية"(متى 6: 16-18). فكلام المسيح عن الصيام مرفق بكلامه عن الصدقة والصلاة(متى 6: 1-6). فكلّ ما علينا القيام به، عليه أن يكون نابعًا من القلب دون التباهي به بل في الخفاء. فثمين هو الصوم الصادق أمام الله، وهو محفوظ ككنز ٍفي السماء.
أمّا الخطر الثالث فهو خطر الاهتمام بالجسد دون الروح. فإذا كان الصوم سلاحًا أمام الشرير، وترسًا نقابل به سهام العدو، فعلينا إذًا أن نصوم صومًا روحيّا يقرّبنا من الله ويطهّرنا من الشوائب التي تمنع ذاك الاتحاد. يقول آفراهات الحكيم: "يوجد من يصوم عن اللحم والخمر وبعض المأكولات، ويوجد من يصوم ليقيم سياجًا لفمه، فلا ينطق بكلمات شريرة. ويوجد من يصوم عن الغضب، ويضبط شهوته فلا تغلبه. ويوجد من يصوم عن المقتنيات، ليجرد نفسه من عبوديتها. يوجد من يصوم عن النوم، فيكون ساهرًا في الصلاة... يوجد من يصوم ليصير تائبًا، فيرضى ربّه بندامته. ويوجد من يجمع هذا كله، ويجعل منه صومًا واحدًا... من َيصمْ عن هذا كله ويجز لنفسه واحدة منها في وقت من الأوقات لا يُحسب له صومه... من نذر على نفسه أن يصوم عن هذا كله وأخذ يحلل لنفسه الواحدة بعد الأخرى تكون خطيئته عظيمة، إن لم توجد نقاوة القلب لا يُقبل الصوم. تذكر أيها الحبيب أنه من الأفضل للإنسان أن ينقي قلبه ويحفظ لسانه ويحجم يديه عن الشر... إذ لا يليق بالإنسان أن يمزج العسل بالعلقم. فإن صام الإنسان عن الخبز والماء لا يمزج صومه بالتجاديف واللعنات. واحد هو باب بيتك الذي هو هيكل الله، فلا يليق أن يخرج منه الزبل والوحل في باب يدخل منه الملك. حين يصوم الإنسان عن القبائح ويتناول جسد المسيح ودمه فلينتبه إلى ابن الملك الذي دخل في فمه، فلا يجوز لك أن تخرج من فمك كلمات نجسة".
الصَّوم زمن انتظار وترقّب قبل الفصح من خلال التأمل في عجائب المسيح وأمثاله.
الصوم هو زمنٌ من أزمنة السنة الطقسية المارونية السبعة. أزمنة مركّزة على حياة يسوع المسيح وتعاليمه. يشرحُ غبطة البطريرك نيافةُ الكاردينال بشارة الراعي في برنامجه الأسبوعيّ للتنشئة الروحية، السنة الطقسيّة في بدايتها من كلّ عام. في سبيل التذكير نعاود شرحها هنا باقتضاب. تبدأ السنة في الأحد الأول من تشرين الثاني المعروف باسم أحد تجديد البيعة وتقديسها، وتنتهي في الأحد الأخير من تشرين الأول والمعروف باسم أحد يسوع الملك، أما عن أول الأزمنة، فهو زمن الميلاد ومدّته سبعة أسابيع يليه زمن الغطاس أو الدنح، وفيه تقام ثلاثةُ أسابيع من التذكارات للكهنة والمؤمنين والموتى، قبل أن يبدأ زمن الصوم الكبير لمدة أربعين يومًا أو ستة آحاد يذكر خلالها الموارنة الأعاجيب التي اجترحها السيد المسيح في حياته الأرضية ويختم الصوم بأسبوع الآلام، وهو زمن مستقلٌّ ومنفصل طقسيًا، لتذكار آلام المسيح وصلبه، وفق المعتقد المسيحي، يليه سبعة أسابيع تعرف باسم زمن القيامة تفتتح بعيد الفصح المجيد لاستذكار قيامة السيد المسيح من الموت وفق المعتقد المسيحي والتعاليم والظهورات التي لحقت به، وبعد خمسين يومًا من القيامة يبدأ زمن العنصرة، أو حلول الروح القدس على التلاميذ والكنيسة وفق المعتقد المسيحي، ويمتد زمن العنصرة ستة عشر أسبوعًا، يستذكر الموارنة خلاله جميع التعاليم والأمثال الخلاصية التي وضعها السيد المسيح خلال حياته الأرضية، ويعتبر زمن الصليب آخر تلك الأزمنة حيث تقرأ وعلى مدى سبعة أسابيع تعاليم المسيح عن اليوم الأخير والدينونة وما ينبغي على المرء أن يعمل حتى يرث الحياة الأبدية.
كلّ أناجيل آحاد الصوم تقدّم لنا نماذج التغيير الذي حقَّقه المسيح، بفيضٍ من حبِّه ورحمته للإنسان، وكطبيبٍ للأرواح والأجساد. هذا الزمن هو زمن التقشف والإماتات والصلوات وقراءة الكتاب المقدس... إنه زمن تقوى يعيشه أبناء الكنيسة معلنين إيمانهم بالمسيح وهم يتوجهون إلى آلامه وموته وقيامته.
مع أحد مدخل الصوم عرس قانا الجليل، نتعرّف إلى الصوم كزمن التجدد والتغيير. في مطلع زمن الصوم، أي في الأحد الأخير قبل إثنين الرماد، نتأمل مع الكنيسة المارونية " عرس قانا الجليل " وهو همزة وصل بين الدنح والصوم. وهنا إشارة إلى أنّ عرس قانا هو ختام لزمن الدنح، عندما أظهر المسيح مجده في أعجوبة الماء(المعمودية) الذي يتحول إلى خمر (في إطار فصحي). وهو أيضاً بداية لمسيرة الصوم التي هي مسيرة إيمان: "وآمن به تلاميذه". آية تحويل الماء إلى خمرة فائقة الجودة في عرس قانا الجليل وهي للدلالة على أنّ المسيح قادرٌ على تحويل باطن الإنسان العتيق إلى إنسان جديد. وبهذا التحويل يزرع الفرح والسعادة في القلب، كما في جمهور عرس قانا والعروسين، ما يعني أنّ المسيح هو، شخصياً، فرح الإنسان الدائم والثابت. ففي هذه الآية أظهر المسيح ألوهيته من خلال اهتمامه بإنسانيّتنا ومحبّته لها. فعرس قانا الجليل هو استباق لعرس الصليب. كما أنّ الماء أصبح خمرًا لذيذة في عرس قانا الجليل، فعلى الصليب، نزف يسوع ماءً ودمًا. فالماء يرمز إلى ماء العماد والدّم إلى ألوهية المسيح التي تفتدي البشريّة. فيسوع يملأ ما كان فارغًا في حياتنا كما ملأ الخوابي خمرًا وحبًّا وفرحًا، ولكن علينا مساعدته.
مع أحد شفاء الأبرص نتأمل بالمسيح المعلّق على الصليب لأننا: "حسِبْناه مصاباً بالبرص مضروباً من الله ومذلّلاً". فيسوع المصلوب على الصليب هو على مثال الأبرص الذي طُهر من معصيته وشُفي. فالمسيح تشبّه بالأبرص على الصليب، ولكنّ برصه كان شافيًا وليس ببرص الخطيئة. من البديهيّ أن تنتقل عدوى البرص من المريض إلى شخص آخر بواسطة اللّمس؛ أمّا عندما لمس يسوع الأبرص، فقد انتقل الشفاء من يسوع إلى الأبرص. فالحبّ الإلهيّ على الصليب هو الذي يعدي المرضى ويشفيهم ويطهّرهم. يعطي التغيير شكل التطهير لجسد الأبرص من كلّ قروحه، بكلمة استجاب بها يسوع لطلبه: "لقد شئتُ فكُنْ طاهراً. فزال برصُه للحال". هكذا يجري التغيير في نفس التائب ويُزيل كلّ تشويهات الخطيئة، مصالحًا إيّاه مع الله ومع مجتمعه ومع ذاته، معيدًا له كرامته ومكانته الإنسانية.
وفي الأحد الثالث من الصوم، أحد شفاء المنزوفة نتأمل المسيح الذي"جُرِحَ لأجل معاصينا". من البديهيّ عندما تلمس امرأة نازفة، نجسة، شخصاً آخر (يهوديّ) أن تنجّسه؛ أمّا النّازفة فعندما مسّت طرف ثوب يسوع، شُفيَت. المرأة النازفة هي صورة المسيح المتصبّب عرقًا ودمًا وينزف على الصليب من أجل خلاص البشريّة. فيسوع يشفي البشريّة ويخلقها من جديد ويعيد لها كرامتها المسلوبة وحقوقها الاجتماعية ومكانتها بنزف دمه المُراق على الصليب. فشفاء المنزوفة يكشف وجهاً آخرَ من التغيير، هو إيقاف نزيف الدم بعد أن باءت بالفشل كلّ محاولات الأطبّاء على مدى اثنتي عشرة سنة. ويرمز إلى إيقاف نزيف القيم الروحيّة والإنسانيّة والأخلاقيّة عند الإنسان من جرّاء الخطيئة.
أما في الأحد الرابع من الصوم، أحد الابن الشاطر، فنتأمّل في خطيئة الانسان وغفران الله اللامحدود. الصَّوم ليس حِميَة، بل العودة إلى الله على مثال الابن الشاطر. في منتصف زمن الصوم، يأتي مثل الابن الشاطر ليضيء لنا على "التغيير السلبيّ الذي جرّته خطيئة الابن الأصغر، إذ نقلته من حالة البنوّة والبحبوحة والكرامة إلى حالة الغربة والفقر والانحطاط الاجتماعي؛ والتغيير الايجابيّ الذي أحدثتهُ توبته، إذ حرّرته من عبودية خطيئته ومن أسبابها ومن التسليم لها، ونقلته إلى حالة الإصلاح الجذريّ، الذي أجرته مصالحة الأب له إذ أحيته من موت، وصوّبته بعد ضياع، وزرعت السعادة في البيت بعد الحزن والتعاسة بسبب الغياب". كما يساعدنا هذا المثل على تقبّل الآخرين من خلال الأمثولة التي قدّمها الأب الحنون لابنه الأكبر الذي رفض عودة أخيه. فقساوة القلب، تصنيف الآخرين، وعدم الوعي للنعمة التي منحت لنا من قبل الآب السماوي بالرغم من العيش في قلب الكنيسة، خطر يقع به كلّ مؤمن لم يغُصْ "إلى العمق" كدعوة المسيح إلى بطرس، بل اكتفى بالقشور.
في الأحد الخامس من الصوم، شفاء المخلّع، نتأمّل يسوع كطبيب للنفوس والأجساد. هناك، اذاً، مسيرة روحية تنقلنا من مسألة الإيمان بمعجزات الشفاء (الأبرص – النازفة) إلى مسألة التوبة والمغفرة (الابن الضال والـمخلّع). يسوع ينقلنا من مفهوم ارتباط الخطيئة بالـمرض (سبب / نتيجة - فكرة سائدة عند اليهود آنذاك) إلى مفهوم الشفاء من خلال الغفران (تُنْسب للمرض الجسديّ جذوره الروحيّة، لذلك فالشفاء هو علامة لغفران الخطيئة؛ مز 103، 3: باركي يا نفسي الرّبّ… سيغفر كلّ خطاياك ويشفي جميع أمراضك). إنّ النقطة الأساسيّة التي يرتكز عليها النّصّ، هي الآية "مغفورة لك خطاياك"، أكثر منها معجزة الشفاء، أو بالحريّ أتت أعجوبة شفاء المخلّع هنا لتؤكد على هويّة يسوع ابن الإنسان القادر على مغفرة الخطايا. إنّه هو ابن الإنسان الذي سيتألّم ويصلب ويقبر ويقوم في اليوم الثالث، والذي سيأتي في الـمجد ليدين الأحياء والأموات. يعطي التغيير وجهتين: إعادة الحياة لجسد مشلول قام يمشي، وإعادة الحياة لعقل وإرادة وقلب وضمير شلّته الخطيئة، فسلك المخلّع الذي شفي، في طريق الحقيقة والخير والحبّ ونداءات الله. فعلى مثال المخلّع المُسمّر على فراشه، سُمّر المسيح على الصليب ليتشبّه بنا في كلّ شيء ويتحوّل صليبه إلى مصدر خلاص.
في الأحد السادس من الصوم، شفاء الأعمى، نتأمّل يسوع نورنا الحقيقيّ ونور العقول والضمائر. شفاء أعمى أريحا هو قمّة وخاتمة أعاجيب يسوع في الإنجيليّين الإزائيّين. وهذا الأحد هو قمّة آحاد الصوم الكبير. فيسوع المُرسَل من قبل الله مخلّصًا للبشر، هو النور والطريق إلى الحياة؛ بدونه نبقى مثل هذا الأعمى على قارعة الطريق نتسوّل الدرهم والبخس، وبنوره نسير وننطلق معه في الطريق، ونبلغ إلى حيث هو، إلى دار النور والحياة الجديدة. يأتي التغيير في هذه الأعجوبة بإعطاء البصر لعينَي الأعمى المنطفئتين، والبصيرة لنفس الإنسان التي أعمتها الخطيئة، فزاغت عن نور المسيح بشخصه وتعليمه وآياته وأفعاله، وعاشت في ظلمة الشرِّ الحالكة.
ومع أحد الشعانين، نتأمّل يسوع الملك محرّر الأمم والشعوب. أحد الشعانين، وهو الأحد الأخير من زمن الصوم قبل الدخول في أسبوع الآلام، يجعل التغيير وصولاً، عبر بحر من الأمواج ورحلة في شراع الكنيسة دامت ستة أسابيع، إلى "ميناء الأمان والنجاة"، إلى المسيح الذي يدخل القلوب والمجتمع البشري ومدينة الأرض بسلامه وأمانه والاستقرار. ومع المسيح نمشي في الأسبوع المقدّس، ونشاركه في آلام الفداء والخلاص بلوغاً إلى فجر القيامة، حيث التغيير عبور من حالة الخطيئة إلى حالة النعمة والحياة الجديدة، وهكذا يكون التغيير قيامة القلوب (البطريرك بشارة الراعي، صوم 2012). من هلّل للمسيح في أحد الشعانين (هوشعنا) انقلب عليه يوم الجمعة العظيمة (اصلبه). فيسوع هو الملك الحقيقي الذي يملك على القلوب. هو الملك الذي سيخلّص شعبه ولكن ليس بالحرب والقتل ولكن بموته وقيامته. فليس من مجد آخر سوى مجد الصليب. وليس من قيامة حقيقيّة سوى بالمشاركة في آلام المسيح.
في الختام، تحثّنا هذه المسيرة الايمانية في الكنيسة المارونية على التّأمّل بالسيد المسيح الذي سُحق كالأبرص ونزفت جراحه كالزانية، ورُفع وسمّر على الصليب كالمخلّع لأجل آثامنا ولكن، من أسفل إلى فوق، لتتمّ فيه رموز الأقدمين: كما رَفع موسى الحيّة في البريّة هكذا ينبغي أن يُرفَع ابن الإنسان ليردّ الابن الضال إلى حضن أبيه السماويّ. للوهلة الأولى، نعتقد بأنّ هذه المعجزات هي للمعجزات وحدها. إنّما الكنيسة المارونيّة تضعها، في هذه الآحاد بالذات، في مسيرة الصوم نحو الفصح لتقول لنا إنّ الله من خلال سرّ الفداء تضامن تضامناً فعليّاً مع البشريّة بشخص يسوع المسيح ابنه:" الذي أخذ عاهاتنا وحمل أوجاعنا، فحسِبْناه مصاباً بالبرص مضروباً من الله ومذلّلاً...جُرِحَ لأجل معاصينا... فألقى الرب عليه إثم كلّنا" (أشعيا 53/4-6). كما نظنّ أيضًا أنّ المسيح لم يُصَب بعدوى البشريّة إلاّ أنّه في الحقيقة أُصيب، فقد حمل خطيئة البشريّة جمعاء. تعلن الكنيسة، ومن خلالها البشريّة جمعاء، أنّها بالعماد (مسيرة من الدنح نحو الفصح) لم تلمس ثوب الرب وحسب، بل لبسته، اتّحدت به هو خالقها الذي تضامن معها واتّحد بها، لتصبح على الصليب عروسته، جسده السرّي، لتتمجّد معه في قيامته.
صوم مبارك للجميع.
الأب المدبّر العام حنا طيّار
مدير جامعة سيّدة اللويزة-فرع الشوف