تستمرّ الحرب في سورية وعليها بنجاح ملحوظ على مسارح عمليات ميدانية واسعة تتخلّلها مسرحيات دموية لتغطية مخططات سياسية. آخر المسرحيات الفاضحة جرى تمثيلها في مدينة الباب بشمال سورية. كانت مسرحية قديمة سبق تمثيلها في مدينة جرابلس القريبة من الحدود السورية – التركية. يومها قام «داعش» بتسليم المدينة للجيش التركي من دون قتال مقابل أن تغضّ أنقره النظر عن تدفق مزيد من الرجال والسلاح والعتاد على «داعش» عبر الحدود التركية لمقاتلة الجيش السوري.

المسرحيّة نفسها جرى تمثيلها في الباب أخيراً حيث سلّم «داعش» المدينة الى تنظيم «درع الفرات» المطعّم بقوات تركية ووحدات مما تبقّى من «الجيش الحر». المحزن انّ الفصل الأخير من مسرحية التسليم والتسلّم جرت تغطيته بمجزرة دموية رهيبة نفذها «داعش» في جوار الباب، وكان ضحيتها عشرات المدنيين السوريين الأبرياء. ما الغاية؟

حملُ السوريين، مدنيين وعسكريين، على مغادرة مناطق الشمال السوري لتمكين حكومة أنقرة من إقامة «منطقة آمنة» في شمال البلاد لمنع الأكراد السوريين من الربط الجغرافي بين محافظتي الحسكة والرقة في شمال سورية الشرقي وبين منطقة عفرين في شمالها الغربي، حيث يبتغي المتطرفون الكرد إقامة منطقة حكم ذاتي بمعزل عن الحكومة المركزية في دمشق.

ليس الأتراك والأكراد و»داعش» وحدهم «أبطال» المسرحيات الدموية الدائرة في سورية للتغطية على مخططاتهم السياسية والاستراتيجية. ثمة لاعب قوي ناشط يقوم بأدوار مفتاحية بعيدة المدى وبعيدة عن الأضواء في سورية والعراق. إنه الولايات المتحدة التي أقامت، إبان ولاية الرئيس السابق باراك أوباما، مواقع وقواعد في محافظة الحسكة وشمال محافظة الرقة، كما لها مواقع وقوات داخل العراق بمعرفة حكومة بغداد وموافقتها.

الى ذلك، يقوم سلاح الجو الأميركي، في إطار ما يسمّى التحالف الدولي، بعمليات وغارات ضدّ «داعش» في العراق كما ضدّ الجيش السوري في منطقة دير الزور، كان أبرزها عملية قصف واسعة استهدفت مواقعه في التلال المحيطة بمطار دير الزور العسكري تمهيداً لقيام «داعش» باحتلالها ومن ثم محاولة احتلال المطار أيضاً لكن دونما طائل.

يرى قادة سياسيون وعسكريون سوريون وعراقيون أنّ العمليات الجوية الأميركية تتمّ في إطار مخطط يرمي، مداورةً او مباشرةً، الى تفكيك كلٍّ من سورية والعراق على نحوٍ يؤدي، بالتعاون مع قوى محلية، الى إقامة كيان مذهبي بحكم ذاتي في شمال شرق سورية الحسكة وربما دويلة لأهل السنّة على طول الحدود السورية العراقية تضمّ المحافظات الغربية في العراق والمحافظات الشرقية في سورية لتصبح أشبه بإسفين يفصل سورية عن العراق وبالتالي عن إيران.

هذا المخطط كان معمولاً به إبان ولاية أوباما، وقد جرى تبريره بأنه تدبير وقائي أراد الرئيس الأميركي السابق من ورائه امتصاص معارضة «إسرائيل» الشرسة للاتفاق النووي والإسهام في تحصينها، وذلك بتفكيك جوارها العربي الى كيانات طائفية وقبلية وإثنية عاجزة عن الاتحاد لتشكيل قوة سياسية واقتصادية وعسكرية تهدّد أمنها القومي.

لا يمكن الجزم، في الوقت الحاضر، بأنّ إدارة ترامب قد تبنّت هذا المخطط، إذ ما زالت تدرس ملفات المنطقة لبلورة مواقف سياسية واستراتيجية بشأنها. لكن لوحظ انّ إدارة ترامب أجازت تسليم قوات كردية متحالفة مع واشنطن دبابات ومدافع ثقيلة بعد نحو أسبوع من انتهاء ولاية أوباما، فهل الغاية من ذلك تعزيز القوات الكردية الحليفة لدعم وضمان مشاركتها في معركة الرقة؟ ثم، ماذا بعد الرقة؟

فريق من القادة العراقيين يعتقد أنّ لتسليح الأكراد السوريين وإشراكهم في معركة الرقة أغراضاً شريرة ويرجّحون انّ الأميركيين يرمون من ورائها الى دفع المقاتلين الداعشيين الهاربين من الموصل حالياً ومن الرقة في قابل الأيام الى منطقة دير الزور السورية والأنبار العراقية من أجل أن يشكّلوا نواةً صلبة للدويلة السنّية المُراد إقامتها على جانبي الحدود السورية العراقية.

القادة السوريون يشاطرون القادة العراقيين هواجسهم وتخوّفاتهم. لذلك نظّموا مباحثات بعيدة عن الأضواء بين القيادتين السورية والعراقية أدّت الى التوصل لتفاهم ثنائي عزّزته مخاطر وصول وحدات من «داعش» الى منطقة طريبيل القريبة من الحدود العراقية الأردنية وقيامها بمهاجمة قوات حرس الحدود العراقية المتمركزة فيها. الهجمة على طريبيل عزّزت شكوك فريق آخر من القياديين العراقيين بأنّ الغاية الأساس من سيطرة «داعش» على محافظة الأنبار هي تفكيك العراق وضمّ المناطق الواقعة تحت سيطرته على جانبي الحدود السورية العراقية الى المملكة الهاشمية الأردنية.

في ضوء هذه الهواجس والتطوّرات حزمت القيادتان العراقية والسورية أمرهما بالتفاهم على ضرورة إجهاض المخطط التقسيمي الخبيث حفاظاً على الوحدة السياسية والجغرافية لِكلا البلدين. هكذا قام سلاح الجو العراقي، بالتنسيق مع نظيره السوري، بشنّ غارات مدمّرة على مواقع «داعش» في الأنبار، كما في بلدة حصيبة ومدينة البوكمال السوريتين الحدوديتين.

الواقع أنّ الأميركيين الممسكين بخيوط التحركات السياسية والعسكرية في الإقليم عجّلوا، بعد نجاح موسكو في عقد مؤتمر أستانة، بعقد مؤتمر جنيف- 4 لمشاغلة دمشق بمسرحية سياسية متمادية وتوسيع الاشتباكات الناشطة بين الأطراف السوريين المتنازعين بقصد إثارة المزيد من عواصف الغبار لحجب ما يجري في المشهد المشرقي من عمليات عسكرية تهدف الى تفعيل مخطط تفكيك كلٍّ من سورية والعراق. أليس لافتاً إصرار وفد الرياض السوري على أن تكون هيئة الحكم الانتقالي وإبعاد الرئيس بشار الأسد عنها القضيةَ الأولى الواجب بحثها وبتّها في مؤتمر جنيف – 4؟ وهل أبلغ من تفجيرات حمص الستة الرهيبة دليل على قرار رعاة الحرب بتخريب مفاوضات جنيف لتمديد الحرب على سورية؟

في هذا السياق، يمكن اعتبار أنّ ما أراده الأتراك والأميركيون مؤخراً هو فتح «الباب» على مزيد من الصراعات في سورية وتمديدها الى العراق بغية تسعير صراعات أخرى ناشطة في داخله، كما على حدوده مع الأردن. ولعلّ مسارعة دمشق وبغداد إلى التفاهم والتنسيق لمجابهة مخططات الولايات المتحدة وتركيا تفتح صفحة جديدة في إدارة الصراعات الإقليمية وترمي الى انتزاع العرب زمَام المبادرة ليكونوا هم، لا غيرهم من دول كبرى وأخرى إقليمية، ضباطَ إيقاع الردّ على هجمات «داعش» وحماة راسمي مستقبل العرب في وطنهم الكبير.