ست كبرى سفن البحرية الملكية البريطانية على شاطئ بيروت قبل يومين، قادمة من جولة في الخليج. النشاط البحري البريطاني يتزايد في المياه الدافئة في تنافس واضح مع القوات البحرية الروسية. إنها حرب الأساطيل «الباردة» من جديد
شاءت البحرية الملكيّة البريطانية، أن تختتم كبرى سفنها الحربية جولتها في «الشرق الأوسط»، باستعراضٍ على سواحل بيروت، قبل العودة إلى الجزيرة البريطانية.
بناءٌ عملاق رمادي اللّون يشبه جزيرة عائمة، يجثم على صدر الرّصيف 13 في مرفأ بيروت (صباح السّبت الماضي)، وسحابة دخانٍ أسود تنبعث من عادم ضخم، على الجهة اليمنى للبارجة الحربية. ليست وحدها إذاً حاملة الطائرات الروسية «الأدميرال كوزنيتسوف» التي ينبعث منها دخانٌ أسود.
هي البارجة الحربية المتعدّدة المهام وحاملة المروحيات «أوشن» أو «HMS OCEAN»، كبرى السفن الحربية البريطانية، بعد حاملة الطائرات «QUEEN ELIZABETH»، المتوقّع دخولها في الخدمة هذا العام.
تقود الرائد البحري جود تيري، وهي ضابط لوجستي على متن البارجة، جولة للصحافيين اللبنانيين على متن حاملة المروحيّات، يعاونها الرائد كرِيسّ. الانتقال من السطح إلى غرفة المؤتمر الصحافي، يتطلّب المرور في أروقة السّفينة والهبوط «طابقين» عبر أدراج ضيّقة وشديدة الانحدار. القاعة صغيرة تتسّع لحوالي عشرين كرسّياً، أمام شاشة عرضٍ صغيرة. تلقي تيري لمحةً عامّة عن مفخرة الصناعة البريطانية. فالأسطول الملكي، كان دائماً ذراع بريطانيا في العالم، ولولاه، لما استطاعت جزيرة معزولة في الماء أن تحمي حدودها، وتحتل وتستعمر نصف الأرض، وتسجّل أنها الأمة الوحيدة في العالم التي لم تخضع لاحتلال. من الواضح أن هامش الرائد الشقراء، محصورٌ بالإجابة عن واقع السفينة، ومعلومات بسيطة عن مهمّتها الحالية بين الخليج والبحر المتوسّط، بعيداً عن أي كلامٍ سياسي. والكلام عن المهمّة، محصور بالآتي: أقلعنا من بريطانيا إلى الخليج في أيلول، وكانت مهمّتنا قيادة مجموعة سفن من (التحالف) في الخليج ضمن قوّة (CTF50)، توقفنا في عُمان ودبي والبحرين (بدأت بريطانيا قبل سنتين إعادة تجهيز قاعدة بحرية بنتها في البحرين خلال الثلاثينات ووضعت أميركا يدها عليها لاحقاً)، وعبرنا صباحاً إلى المتوسّط عبر قناة السّويس». هل يُعنى هذا التحالف في «الحرب على الإرهاب» أو ضمن التحالف الذي تقوده أميركا أم ضمن «الناتو»؟ تجيب تيري: لا، إنها مهمة منفصلة، لكنها من ضمن «قيادة القوة الضاربة المشتركة»، وهي «قوة متعددة الجنسيات تتولى مراقبة التدفق التجاري الحر وحرية الملاحة والأمن الاقليمي في الشرق الأوسط»، تماماً كما يذكر الملخّص الصحفي الصادر عن السفارة أمس.
«أوشن» هي سفينة عمليات برمائية، باستطاعتها حمل 18 مروحية، مثل «ميرلين» و«أباتشي»، لكنّها تكتفي بحمل ما بين 12 إلى 14، بالإضافة إلى ستّ سفن إنزال، و40 عربة مدرّعة، أو ربّما أكثر. وتضمّ السفينة العملاقة 1100 سرير، من بينهم طاقمها الذي من الممكن أن يصل إلى 280 بحّاراً. أما الباقي، فمن الممكن أن يضمّ ما تتطلّبه المهمّة: وحدات قوّات خاصة، وحدات إنزال جوّي وبحري، وبحّارون من دولٍ «صديقة»، كالأميركيين والفرنسيين الذي كانوا على متنها أمس، ضمن الـ 658 شخصاً المتواجدين على متنها. على السطح، يتابع طياران من طاقم مروحية «ميرلين»، الإجابة عن الأسئلة. هل شاركتم في مهمات خلال هذه الزيارة؟ «نعم»، يجيب الطيار الأكبر بلباسه البني السّميك. هل كانت المهمة عملية إنزال أم قصفٍ جوّي في اليمن، أو مطاردة للقراصنة الصوماليين؟ يكتفي الطّيار بالابتسام، لكنّه يؤكّد بأن المهمة «كانت مثيرة». السؤال التالي لجندي من جنود جوّالة البحرية بلباسه المرقّط. هل شاركتم في عمليات خلال هذه الرحلة؟ «للأسف، لا»، يجيب الجندي الجوّال. لكنّه كان يتمنّى وزملاؤه العشرون الآخرون على متن السفينة، الانخراط في مواجهة مع «الأشرار». من هم «الأشرار»؟ يبتسم الرقيب أيضاً، ولا جواب. في هذه الأثناء، كانت فرقة التشريفات تتمرّن على عرضها المقرّر مساء السبت خلال حفل الاستقبال الرّسمي، بانتظار وصول السفير البريطاني في بيروت هيوغو شورتر. تتلقّف العدسات ومكبّرات الصوت الخاصة بالتلفزيونات السفير شورتر، الذي يكشف عن سبب توقّف «أوشن» في بيروت: «إنه تتويجٌ لعمق العلاقات العسكرية بين لبنان وبريطانيا». يذكّر شورتر بالدعم الذي تقدمه بريطانيا للجيش وقوى الأمن الداخلي والتعاون مع وزارات التربية والشؤون الاجتماعية ووزارات أخرى، ويضرب مثلاً عن مساعدة بريطانيا في بناء أبراج وكاميرات مراقبة للجيش على الحدود الشرقية. ولا ينسى أن يذكر أن «موازنة الدفاع البريطانية هي الأعلى في أوروبا وثاني أعلى على مستوى حلف شمال الأطلسي». ثم يكشف السفير عن مساعدة مقدّمة مؤخّراً لمغاوير الجيش بقيمة 65000 دولار أميركي. بدا المبلغ زهيداً، لكن سرعان ما تتدخّل إحدى منظمّات الجولة من السفارة، لتؤكّد بأن المبلغ من ضمن 100 مليون دولار دفعتها بريطانيا حتى الآن. وفي جوابٍ على سؤال «الأخبار»، حول ما إذا كانت بريطانيا تشترط على الجيش أو الحكومة مواقف سياسية لدعم الجيش، كما بدأ يفعل الأميركيون، يردّ السّفير: «أنا لن أعلق على تصريحات رئيس الجمهورية (ميشال عون)»! مؤكّداً أن «بريطانيا ملتزمة بالاتفاقيات بين البلدين، وبقرارات مجلس الأمن الدولي والقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة».
لاحقاً، تسأل «الأخبار» شورتر عن سبب النّشاط البحري البريطاني المتزايد. فقبل نحو ثلاثة أسابيع، أرسلت البحرية المدمرة «دايموند» إلى البحر الأسود، وبحسب صحيفة «ذا صنّ» البريطانية، فإن مهمة المدمرة قيادة حلف قوات الأطلسي في البحر الأسود، وحماية 650 جنديّاً ينفّذون تمارين سريّة في أوكرانيا، وهي الزيارة الأولى لسفينة حربية بريطانية إلى هذا البحر، منذ نهاية الحرب الباردة. والآن، يحطّ البريطانيون في بيروت، على بعد أقلّ من 200 كلم عن قاعدتي طرطوس وحميميم، حيث تنتشر قطع بحريّة وغواصات روسية، بالإضافة إلى أسراب طائرات. هل تطاردون الروس سعادة السفير؟ يبتسم شورتر بدوره، ثمّ يقول: «لن أجيب مباشرةً، لكن البحر الأسود والبحر المتوسّط يعدّان مياها دولية، وللبحرية البريطانية الحق في التواجد أينما تريد وفي أي مياهٍ دولية في العالم».
بالمناسبة، السّجال حول «أوشن» مستعرٌ في بريطانيا، بين من يريد إخراجها من الخدمة في العام 2018 ورفع الموازنة العسكرية للقوات المسلحة البريطانية والمساهمة أكثر في نفقات حلف «الناتو» كما يضغط الأميركيون، وبين من يعترض على إخراجها الآن ويطالب بإبقائها في الخدمة إلى عام 2023. إذ أن «أوشن» خرجت قبل عامين من عملية صيانة تكلفتها 65 مليون باوند، ومن غير المنطقي أن تخرج الآن من الخدمة مع كلّ هذه التكلفة. بعد عامٍ أو أعوام، تتحوّل «أوشن»، هذه السفينة المخيفة، إلى خردة أو قطع غيار، أو إلى متحف، يؤرّخ سيرتها الذاتية. وربّما، لتبيان الحقيقة أكثر، يُكتب على جدرانها الداخلية، أسماء الذين قُتلوا بأسلحتها الفتّاكة، خلال مشاركتها في الحرب على يوغوسلافيا، وفي العدوان البريطاني ـــ الأميركي على العراق في 2003، وفي الحرب على ليبيا عام 2011!