المفاوضات في جنيف بطيئة. الجيش السوري في الميدان متحرّك ومتقدّم. هذا هو العنوان الرئيس للأحداث في المشرق العربي في الحاضر والمستقبل المنظور.
المفاوضات بطيئة، لأنّ فصائل المعارضة السورية تشتبك عسكرياً في ما بينها، ولأنّ حلفاءها الإقليميين يشتبكون سياسياً في ما بينهم. الفصيل الآتي من الرياض اعتبر نفسه المفاوض الرئيس ورفض اقتراح تشكيل وفد سوري موحّد، لأنه غير راضٍ عن مواقف فصيليْ موسكو والقاهرة. كما رفض ضمّ أي فصيل الى صفوفه لا يجاريه في المسائل السياسية والإجرائية.
بعض ما أبداه وفد الرياض نابع من تفكير أعضائه. بعضه الآخر موحىً له به من طرف حلفائه الإقليميين. فصيلا موسكو والقاهرة اختلفا عن وفد الرياض في التفكير والتدبير، أيّ في المسائل السياسية كما في المسائل الإجرائية، وهي مترابطة ومتكاملة في نهاية المطاف، وأبرزها مسألتان: الإرهاب وهيئة الحكم الانتقالية.
فصيل الرياض رفض بحث مسألة الإرهاب بالتوازي مع المسائل الأخرى. فصيلا موسكو والقاهرة عارضاه وأيّدا موقف وفد الحكومة السورية التي تعتبر مواجهة الإرهاب أخطر التحديات التي تواجه البلاد، بل الإقليم، في هذه المرحلة. مردُّ التعارض بين موقف وفد الحكومة السورية وموقف وفد الرياض عدمُ الاتفاق على تحديد الفصائل الإرهابية الناشطة في سورية من جهة، ومن جهة أخرى اعتماد وفد الرياض وداعميه الإقليميين ميدانياً على بعض الفصائل المختلف على تصنيفها من جهة أخرى.
ثم انّ وفد الرياض أراد البدء ببحث مسألة هيئة الحكم الانتقالية قبل أي مسألة أخرى. وفد الحكومة السورية لم يمانع في بحثها، لكن بالتوازي مع سائر المسائل. لماذا أصرّ وفد الرياض على بحثها والبتّ بها قبل غيرها؟ لأنه يخشى أن يطول أمد مناقشتها في وقتٍ يُحرز الجيش السوري وحلفاؤه تقدّماً مطرداً على الأرض، الأمر الذي يعزز المركز التفاوضي للحكومة السورية ويُضعف مركز خصومها.
كلّ هذه الوقائع والذرائع تجعل الميدان، لا المفاوضات، العامل الأول والحاسم في تقرير وحدة سورية. هذا بدوره يفسّر سبب إصرار دمشق على بحث مسألة الإرهاب قبل غيرها، بل على وجوب دحر الإرهاب وضمان جلائه عن جميع مناطق سيطرته وذلك تحقيقاً لوحدة سورية الجغرافية والسياسية. وفي نهاية الجولة الأولى من المؤتمر تمكّن الوفد السوري من فرض بند مكافحة الإرهاب في جدول الأعمال الذي أعلن ستيفان دي ميستورا الاتفاق عليه.
ثمّة ما يدعم موقف دمشق في هذا المجال. فالجيش السوري وحلفاؤه حرّروا مدينة حلب ومحيطها، ثم اندفعوا شمالاً وحرّروا قسماً من ريفها الشمالي حتى مشارف مدينة الباب. وإذ بدا تحرير هذه المدينة مسألة أيام فقط، حدث أمر غريب بقدْر ما هو غامض. فقد انسحب مقاتلو «داعش» بسرعة ملحوظة من مواقعهم داخل المدينة وسلّموها لقوات «درع الفرات» المطعّمة بقوات تركية تضمّ في صفوفها ما تبقّى من «الجيش الحر» في شمال سورية. وكان تردّدَ، قبل هذه الواقعة، أنّ موسكو وأنقرة اتفقتا على تمكين الجيش السوري وحلفائه من تحرير الباب والسيطرة عليها بدليل أنّ الطائرات الحربية الروسية قصفت تشكيلات «درع الفرات» على مشارف الباب قبل تنفيذ «داعش» مسرحية الانسحاب منها وتسليمها للتشكيلات المذكورة.
لئن اتضح من تصريحات سابقة لطيب رجب أردوغان انّ تركيا تعتزم طرد قوات الأكراد السوريين من الباب، ومن ثم التقدّم شرقاً لتحرير منبج بغية إقامة «منطقة آمنة» في شمال سورية، إلاّ أنّ أحداثاً ميدانية وقعت لاحقاً جعلت من مطامع الرئيس التركي أمراً شبه مستحيل. ذلك انّ إدارة ترامب الجديدة زوّدت قوات الأكراد السوريين مزيداً من الدبابات والأسلحة الثقيلة ما يشير الى انّ واشنطن لن تسمح لأنقرة بدحر حلفائها الأكراد في شمال شرق سورية. ثم انّ الجيش السوري، وهذا هو التطور الأهمّ، تقدّم من جنوب مدينة الباب شرقاً باتجاه نهر الفرات وسيطر على المنطقة الواسعة الممتدة من جنوبها الى مشارف منبج قاطعاً الطريق على القوات التركية التي يلوّح أردوغان وأركان حكومته بأنها ستشارك في معركة تحرير الرقة من «داعش».
إلى ذلك كله، فإنّ الجيش السوري تمكّن من تحرير تدمر ومطارها ومحيطها من «داعش» وأصبح في وسعه أن يتجه شمالاً لتحرير القسم الذي يسيطر عليه «داعش» من مدينة دير الزور ومحيطها. كما أصبح في وسعه أن يتجه الى الشمال الشرقي ليشارك في تحرير مدينة الرقة ومحيطها.
كلّ ذلك حمل أردوغان على خفض مستوى مطامعه بقوله إنّ أنقرة مستعدّة للمشاركة في تحرير الرقة، إذا ما اتفقت موسكو مع واشنطن على ذلك. هذا يعني انّ أنقرة ما عاد في مقدورها التصدّي وحدها لـِ «داعش» في الرقة. ثم أنّ واشنطن لن تسمح لأنقرة بأن تتخذ موقفاً ميدانياً في تلك المنطقة من شأنه النيل من حلفائها الأكراد السوريين. أما موسكو فلن ترضى بأيّ تحرك تركي يسيء الى حليفتها الأساسية دمشق، وخصوصاً بعد «فعلة» أنقرة، بالتواطؤ مع «داعش»، في مدينة الباب.
إذ تنحسر أحلام أردوغان بإقامة «مناطق آمنة» في شمال سورية، تتعزز حظوظ الجيش السوري في تحرير مناطق متزايدة يسيطر عليها حالياً «داعش» في شرق البلاد دير الزور والرقة و«النصرة» في غربها إدلب وفي جنوبها الجولان ودرعا . غير انّ ذلك يتوقف، الى حدٍّ ما، على ما تعتزم واشنطن القيام به في شمال سورية الشرقي وفي العراق، ولا سيما بعد قيام طائرات «التحالف الدولي» الأميركية بتدمير جسر الميادين على نهر الفرات جنوب دير الزور لتعطيل تعاون البلدين ضدّ «داعش» في المنطقة الحدودية.
وعليه، بمقدار ما يتمكّن الجيش السوري من تحرير المزيد من مناطق يسيطر عليها «داعش» و«النصرة» بمقدار ما يكون الميدان العامل الأول والحاسم في تقرير نتائج مفاوضات جنيف، ولا سيما لجهة استعادة وحدة سورية الجغرافية والسياسية.