نتأمَّل، في هذا الأحد المبارك، بشفاء المرأة النازفة(لوقا 8، 40- 56) منذ اثنتي عشرة سنة وهذا الرقم يرمز الى النقص ويشير الى جميع الديانات القديمة ومنها العهد القديم الذي ينتظر مجيء المسيح ليكتمل. ونتوقَّف عند أبرز الأشخاص المذكورين في هذا المقطع من إنجيل القديس لوقا:
1-المسيح
يظهر المسيح في هذا الإنجيل علنًا أنَّه المسيح المنتظر الذي وصفه الأنبياء بقولهم: «يحمل أوجاعنا» أو قولهم: «العميان يبصرون والمرضى يشفون والعرج يمشون». كذلك يظهر نشاط المسيح التبشيري بين الشعوب والأمم معلنًا أنَّ ملكوت الله بات بين الناس، يأكل معهم ويشرب ويعزّي المحزونين ويقوِّي المقهورين. قبل اعتماده على يد يوحنَّا، كان المسيح يشدِّد على من يتعرّف إليه ألاَّ يقول لأحد إنَّه المسيح المنتظر. أمَّا بعد اعتماده، فأصبحت رسالته ومُهمَّته علنيَّة أمام الكتبة والفرِّيسيِّين والشعب كلِّه.
أثبت السيح بسلوكه وأعماله أنَّه يتمِّم إرادة أبيه الذي في السماء وأنَّه بعيد كلَّ البعد عن صورة المسيح التي يريدها بعض اليهود، وإن كانت الصورتان تُظهران المسيح أنَّه إبن داود، غير أنَّ الفرق واضح بين الإتجاهين: الأوَّل يجعل من المسيح حامل خطايا العالم، بينما الثاني يجعله ملكًا على صورة داود يعيد المجد لإسرائيل، وهذا خطأ لأنَّ المسيح أعلن أنَّ ملكه ليس من هذا العالم، والملكوت الذي جاء ليؤسِّسه ويبنيه ويستمر فيه هو ملكوت الله الذي يجمع أبناء الأرض كافة، ولا يكون حكرًا على شعب الله المختار.
2-الجمهور المرافق
احتشد حول السيِّد المسيح حشد من المرافقين التابعين له ومن الشعب الذي عرفه. منهم من تبعوه لأنَّه أطعمهم، وآخرون لأنَّه شفاهم، وغيرهم لأنَّهم آمنوا بأنَّه المسيح. جمعت هذه الحشود أناسًا من اليهود وآخرين من الأمم، أي الشعوب غير اليهوديَّة، من هذه الشعوب كانت المرأة النازفة موضوع إنجيل اليوم. استمرّت الحشود تتبع المسيح منذ اعتماده على يد يوحنَّا المعمدان ما لفت أنظار السلطتين، في تلك الأيام، الروحيَّة والزمنيَّة بقسميها اليهودي والروماني.
شغل هذا الأمر بال الفرِّيسيِّين ورؤساء الكهنة بشكل خاص، ذلك أنَّ الشعب لم يكن راضيًا عن كلا السلطتين اللتين تُحمِّلان الناس أحمالاً ثقيلة، وهما لا يمسَّانها بإصبع واحد تخفيفًا عن كاهل الناس. فقد أرهقت الرسوم والضرائب والإلتزام بالشريعة بشكل حرفي مُعظم الناس، وجعلتهم يبحثون عن الخلاص في شخص آخر غير الفرِّيسيِّين. ربَّما تبعوا المسيح لأنَّهم رأوا فيه هذا الشخص الذي يساعد الناس، ويحمل عنهم بعض هموم الحياة، ويرشدهم إلى الطريق الصحيح في مسيرتهم اليوميَّة نحو غاياتهم المتعدِّدة أوَّلاً، إلى يوم يحوّل المسيح جميع هذه الغايات إلى غاية واحدة وهي أن يعرفوا الله وينالوا الخلاص الأبدي.
3-المرأة النازفة
دخلت هذه المرأة الحشود الملتفَّة حول المسيح ليس عن معرفة سابقة بهذا الرجل، لأنَّها ليست يهوديَّة ولم تعطها ثقافتها أي معلومات عن شخص المسيح، لكنَّها عرفته من خلال أعماله وأحاديث الناس عنه وعن المعجزات التي يقوم بها، فاقتربت، مدفوعة بإيمانها بأنَّها ستنال طلبها كما نال آخرون ما يرغبون، بخاصَّة المرضى الذين نالوا الشفاء على يد المسيح، فكسرت القيود وأسقطت الحواجز التي تمنعها من لمس المسيح الرجل، وتلك التي تمنعها من الكلام عن مرضها النسائي الذي تحظِّر التقاليد الاجتماعيَّة التلفُّظ باسمه، لأنَّه عارٌ وعيبٌ ودليل لعنة، بحسب مفاهيم تلك الأيام. إنَّه يذكّر بكلام الله لحوَّاء بعد الخطيئة: «بالآلام والأوجاع تلدين بنيك». لذلك لم تكن الكنيسة تسمح للنساء بالصعود إلى الخوروس قرب المذبح حيث لا يحقُّ إلاَّ للرجال الوصول إليه، وذلك تحت تأثير تعاليم العهد القديم.
كلُّ الحواجز سقطت حين دفع الإيمان بالمرأة النازفة إلى الاقتراب من المسيح ولمسه والمجاهرة علنًا وأمام الناس عن السبب الذي ألزمها بالإقتراب منه ولمسه. أوليس المسيح أعظم من الخوروس ومن المذبح؟ أوليس فرح المرأة بالشفاء وسعادتها وتحرُّرها من مرضها أعظم من الناموس؟ لقد جاءت تؤكِّد على أنَّ الناموس في خدمة الإنسان وليس الإنسان في خدمة الناموس، كما علّم السيِّد المسيح مرارًا وتكرارًا. لقد حرَّرها المسيح من كلِّ القيود وشفى نفسها وعقلها قبل أن يشفي جسدها من المرض.