يعمل الحزب التقدّمي الاشتراكي على حشدٍ حزبي وطائفي غير مسبوق في الذكرى الأربعين لاغتيال مؤسّسه كمال جنبلاط. الحشد في المختارة بمثابة رسالة، يريد النائب وليد جنبلاط توجيهها أولاً إلى الرئيس ميشال عون، في غمرة البحث عن قانون انتخابي جديد يرى جنبلاط أنه خاسر فيه لا محالة
عشيّة عيد ميلاد السيّد المسيح العام الماضي، زاد النائب وليد جنبلاط على هدايا نبيذ «كفريا» المعتادة لمجموعة من الأصدقاء والصحافيين، هديّة/ رسالة، هي عبارة عن «دي. في. دي.» يؤرشف زيارة البطريرك بشارة الراعي إلى المختارة في آب 2016، لمناسبة اختتام ترميم كنيسة السيدة وإحياء الذكرى الـ15 لـ«مصالحة الجبل».
ومع أن رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي فقد في السنوات الماضية أكثر من صديق، كانوا بمثابة «قرون الاستشعار» السياسيّة لديه، كاللواء حكمت الشهابي مثلاً، بما يفسّر وقوعه المدوّي في رهانات خاسرة متتالية منذ ما بعد عام 2001، إلّا أن ابن البيت السياسي المتجذّر في تاريخ المنطقة لم يفقد حدسه، فبدت الهديّة استباقاً لعمق الخطر الآتي من المعادلات المحليّة والإقليمية، التي أوصلت الرئيس ميشال عون إلى قصر بعبدا.
قبل أيام من الذكرى الأربعين لاغتيال زعيم «الحركة الوطنية اللبنانية» كمال جنبلاط، تعجّ القرى الدرزية من عاليه والشوف والمتن الأعلى إلى راشيا وحاصبيا، بحركة غير مسبوقة لخلايا الحزب التقدّمي الاشتراكي ومشايخ الدروز الجنبلاطيين. ورشة تحشيد ودعاية وشدّ عصب حزبي ومذهبي، لتأمين أكبر حشدٍ ممكن في «يوم الوفاء لكمال جنبلاط»، تشبه تلك التي أوعز بها جنبلاط عشيّة 14 آذار 2005، يوم ارتكب «خطيئة» وضع طائفة الموحّدين الدروز اللبنانيين بوجه سوريا، الدولة والدور الإقليمي. وفيما اتّخذ جنبلاط يومها سوريا والرئيس بشّار الأسد عدوّاً لحشد مناصريه على دماء الرئيس رفيق الحريري، يحاول البيك هذه المرّة السير على حافة الهاوية في تحديد «العدوّ» أو «الخصم»، ما دام أحد أبرز عناوين الحشد صباح الأحد المقبل هو التمسّك بمصالحة الجبل، وما دام أحد أبرز أسباب الحشد هو «الصحوة المسيحية» المتمثّلة في خطابات الوزير جبران باسيل، ومقارنة الرئيس عون نفسه بالأمير فخر الدين المعني الكبير.
خلال الأشهر الثلاثة الماضية، حَصَّل جنبلاط كلّ المبرّرات التي تساعد زعيم طائفة على حشد قواعده، على أساس الخوف من التهميش أو الإلغاء، وهي عناوين جذّابة، خصوصاً لجماعة أقليّة مثل الموحّدين الدروز. وبالتدريج، يمكن القول إن طرح النسبية في قانون الانتخاب، الذي من المفترض أن يكون ضامناً لحصص الأقليّات، صوّره الجنبلاطيون «تهديداً وجودياً». ونجح الاشتراكيون في تقديم العرض شبه العسكري لـ«سرايا التوحيد» في منزل الوزير السابق وئام وهّاب وكأنه رسالة تهديد من سوريا وحزب الله لقواعد الجنبلاطيين في قلب الشّوف، وهو ليس كذلك طبعاً. ثمّ أتت «الشحمة على الفطيرة» بأزمة معمل آل فتّوش في عين دارة، وهو ما استطاع جنبلاط أيضاً تجييره في ذات اتجاه «سرايا التوحيد»، لكنّه ذهب هذه المرّة، بقرار منه، إلى إيقاظ الرغبة في حمل السلاح بين الدروز، حيث يناوب ما لا يقلّ عن 30 مسلّحاً، بينهم مشايخ، على تخوم معمل الاسمنت المفترض. هذه المرة، لم «ينفض جنبلاط يده»، بخلاف ما فعل بعد وفاة القيادي الاشتراكي حافظ عزّام قبل أشهر في دورة عسكرية تدريبية في عين زحلتا، يوم حمّل المسؤول الأمني الاشتراكي صلاح البتديني مسؤولية الأمر أمام الأجهزة الأمنية وحزب الله، ثمّ عزله، علماً بأن بيار فتّوش، لو قَبِلَ بدفع «الخوّة» لجنبلاط، لسَوَّقَ الاشتراكيون لمعمل الاسمنت، كما لو أنه منتجع صحيّ في أعالي جبال لبنان، تماماً كما سوّق تيمور جنبلاط قبل أيام في مقابلته مع «الشرق الأوسط» لـ«الفلتر» الجديد في معمل العائلة في سبلين، أو كما سوّق الوزير أكرم شهيّب لمشروع إقامة مطامر النفايات في ضهر البيدر قبل نحو عام. ولا شكّ في أن مسألة خروج محاسب دار المختارة السابق بهيج أبو حمزة من السجن، كما يقتضي المسار القانوني والقضائي الطبيعي، أعطى مادّة لجنبلاط تدعم نظريّة استهداف الزعامة والدور، بالإيحاء وكأن قرار إخلاء السبيل يقف خلفه عون، وليس السياق القضائي.
ولا يمكن إغفال «زحطة» باسيل الأخيرة قبل أيام من حشد المختارة، بنقضه أمراً شبه متّفق عليه بين القوى السياسية والإقليمية التي رعت اتفاق الطائف، بأن رئاسة مجلس الشيوخ (الذي من المفترض أن يتشكّل كضمانة لمصالح الطوائف في حال إلغاء الطائفية السياسية) من حصّة الدروز. وبدت كلمات باسيل، وقوله إن رئاسة مجلس الشيوخ من حصّة المسيحيين، القطعة الناقصة في «بازل» الحشد الحزبي والطائفي الذي يسعى إليه جنبلاط، موفّراً للأخير مادة لا يستهان بها في أوساط القواعد الجنبلاطية والمشايخ لزيادة التحريض. على المقلب الآخر، يبدو باسيل مستفيداً من خصومة جنبلاط، لشدّ عصب مسيحي مقابل في الجبل، في غياب الخصومة مع حزب القوات اللبنانية، والـ«تفاهم» مع الرئيس سعد الحريري ومدير مكتبه نادر الحريري.
يدرك جنبلاط تماماً أن ما من مصلحة لأحد في الصدام بين الدروز والمسيحيين، خصوصاً في قرى الشوف، وهو لأجل ذلك يشدّد على «المصالحة»، مستفيداً من العلاقة مع الراعي وتمايز القوات اللبنانية عن التيار الوطني الحرّ. أكثر من ذلك، حتى في عزّ فورة الإعداد لمهرجان الأحد، يحرص الاشتراكيون على عدم استفزاز المسيحيين في قرى الشوف، حتى إنه جرى اعتماد طرق فرعية لنقل المشاركين إلى المهرجان، عوض المرور في القرى المختلطة أو تلك ذات الغالبية المسيحية. وفيما لم تتّضح بعد نيّة جنبلاط في تحويل المهرجان إلى احتفال مبايعة رسميّة لابنه تيمور، الذي يكون أوّل وريث جنبلاطي يرث الزعامة من دون «معمودية دم»، كما لم يتّضح بعد ما إذا كان تيمور قد بات جاهزاً لهذا الحمل الآن. إلّا أن الأكيد أن جنبلاط لن يرفع السقف السياسي لخطابه، في قراءة واقعية لموازين القوى الحالية، التي تختلف كثيراً عن خطابات «همروجة» 14 آذار، وسيكتفي بالحشد لإيصال الرسالة... إلى «الغريم» في قصر بعبدا.
ويبدو لافتاً أيضاً «الانفصام» في الموقف السياسي حيال معسكرَي الصراع في المشرق العربي، إذ لا تتّفق شعارات التغنّي بـ«القضيّة الفلسطينية» و«الحركة الوطنية» التي قادها الراحل كمال جنبلاط، مع التزلّف الذي أبداه تيمور للمملكة السعودية في مواقفه الأخيرة، في ظلّ العلانية الزائدة للعلاقات السعودية ــ الإسرائيلية.