تتكدّس الأزمات وتتراكم على السلطة في تركيا، بحيث تشعر أن الوقت الذي تمرّ فيه تركيا منذ سقوط مشروع "الإخوان المسلمين" تحوّل إلى مسار من التناقضات والخيبات والكبوات التي لم تستطع - أقلّه لغاية الآن - أن تُسقط غرور السلطة الأردوغانية وتدفعها إلى إعادة النظر في ما تقوم به.
ففي موازاة قيام الرئيس التركي بزيارة رسمية لموسكو، تغيب المعارضة المسلحة السورية عن مباحثات "استانة 3"، عازية الأمر إلى تزايُد العنف، وقصف الجيش السوري لحي الوعر في حمص، وعدم قيام الروس بمنع الجيش السوري من القيام بالعنف، لكن المرجح أن يكون أردوغان قد أوعز إلى المجموعات المسلّحة بعدم المشاركة، وذلك لسبيين: الأول لأن هدف هذه المباحثات هو تحديد الخرائط التي تفصل بين المجموعات المسلحة والمجموعات الإرهابية، وهو ثمن لا يريد أن يقدّمه أردوغان في هذه الوقت، والثاني بسبب الحنق التركي من التقدّم العسكري السوري في الشمال السوري، ومنع القوات التركية التي تحتلّ مدينة الباب من التقدّم باتجاه منبج أو الرقة.
إن قيام الجيش السوري بالتقدم الميداني والسيطرة على كامل المنطقة الممتدة من مطار كويرس لغاية الضفة الغربية لنهر الفرات، وتشكيله عائقًا أمام القوات التركية التي تحتل الباب، لاستكمال تقدمها نحو الرقة، بالإضافة إلى الاتفاق مع "قسد"، والذي قامت بموجبه "قسد" بتسليم الجيش مناطق في منبج، مما شكّل عائقًا أمام القوات التركية المتمركزة في الباب من التوسع شرقاً إلى منبج، يكون قد أفرغ احتلال مدينة الباب من قبَل الأتراك من أهميتها الاستراتيجية، ومنع الأتراك من التقدّم الميداني للتوسّع في الشمال السوري تمهيداً لإنشاء المناطق الآمنة، وهو من الأسباب التي تجعل أردوغان يُحجم عن جلب المعارضة المسلحة إلى "استانة 3".
ولعل غياب المعارضة يشير إلى حجم المأزق الذي يواجهه أردوغان على مستويات عدّة:
1- على الصعيد الأميركي: قد يكون الجموح ازداد بعد وصول الرئيس دونالد ترامب إلى الحكم، بحيث شعر أردوغان أن أحلامه التي استعصت على التحقّق في سورية قد حان أوانها، وأنه يستطيع أن يُقنع الإدارة الأميركية الجديدة بالوقوف إلى جانبه، عارضاً خدماته في تأمين احتلال جزء من الشمال السوري بذريعة المناطق الآمنة التي يريدها ترامب تحت ستار "الإنسانية".
واقعياً، لم تُبدِ الإدارة الأميركية رغبة بشراء ما يعرضه التركي في بازار الحرب السورية، فترامب الآتي من عالم الأعمال، لم يتخلَّ عن الورقة الكردية التي تؤمّن حضوراً أميركياً عسكرياً فاعلاً في الميدان السوري، ويمكن استخدامها لكسب مكاسب أميركية صافية، مقابل تقاسم أرباح غير مضمونة مع التركي، وقد أدرك أردوغان بعد أزمة منبح، أن الأميركيين مستعدون لعقد تفاهمات ميدانية جزئية مع الروسي على حسابه، وقد يكون القصف التركي على القوات السورية في منبح دليلاً واضحاً على كمية الغضب التي تحتقن لدى القادة الأتراك.
2- على الصعيد الأوروبي: كشفت الأزمة الأخيرة التي نشبت بين الأتراك وهولندا، عمق الأزمة وعدم الثقة بين الاثنين، وإن كان أحد يعتقد أن الأوروبيين ينسون لأردوغان ومخابراته مساهمتهم في فتح باب اللجوء وتأمين تدفقات اللجوء الجارفة إلى الاتحاد الأوروبي يكون واهماً. بشكل أساسي، تخشى الحكومات الأوروبية من تنامي "اليمين" في بلادهم، ويأتي أردوغان اليوم بشتائمه وصراخه ليزيد الحنق الشعبي ويعطي استفادة لـ"اليمين" في الانتخابات المقبلة، وعليه، يستفيد أردوغان داخلياً من هذا الصراع، ويستفيد منه "اليمين" الأوروبي أيضاً، والخاسر الأكبر هي الحكومات الأوروبية التي خضعت للابتزاز الأردوغاني وأغدقت عليه الأموال ضمن إطار سياسة "وقف زحف اللاجئين" إلى أوروبا.
3- على صعيد العلاقة مع الروس: يدرك الروس جيداً أن أردوغان شخص لا يؤتمَن له، لذا يقومون بإعطائه المكاسب نقطة نقطة، وتسليمه "مكافأة" كلما أثبت حسن سلوكه، وبالرغم من كل الأحلام الأردوغانية بصفقات أسلحة وطائرات وامتلاك صورايخ "أس 400"، يعده الروس بدرس الموضوع، ويكتفون بفكّ الحظر على استيراد البصل والزهور والقرنبيط.
يريد الروس من أردوغان أن يوافق على مشروع "السيل التركي" الذي يعطي الروس أرجحية اقتصادية واستراتيجية في أي صراع مستقبلي على إمداد الغاز إلى أوروبا، لذا يغضّون النظر عن الكثير من تقلباته في سورية، وفي المقابل يدرك أردوغان أن اللعب مع الروس ليس بالأمر السهل، لذا يحاذر اللعب على المكشوف، ويبدي حرصاً مضاعَفاً باعتبار أن العلاقة مع الروس تبدو كمن يسير في حقل ألغام؛ يخشى في أي لحظة أن ينفجر به لغم فيطيح به.
ومن أكبر تجليات الغرور والوهم أن يؤمن أردوغان بتفوق ذكائه على ذكاء الرئيس بوتين، فيعطّل مؤتمر "أستانة 3"، ويمنع المعارضة المسلّحة من المشاركة فيه، في الوقت نفسه يذهب إلى موسكو مصافحاً الرئيس بوتين، وفاتحاً أبواب التعاون الاقتصادي والاستراتيجي!.