لما كان الإنسان نفساً وجسداً ، فهو بحاجة إلى أفعال الجسد. فالصوم أو الصيام كلاهما مصدر واحد صام يصوم صوما وصياما، وهو لغة الإمساك عن الطعام والشراب لفترة من الزمن، وكأن الحاجة الفيزيولوجية أصبحت في المكان الثاني.
وأما الكلمة اليونانية νεστεια (نستيا) تعني الإمساك ويشير الإمساك هنا إلى ضبط الجسد والنفس فيصبح الإنسان سيدا على أهوائه وعلى رغباته. فضبط النفس والجسد بإذلالهما يؤدي إلى التواضع وهو شرط لدخول الملكوت. فالصائم كأنه يقول لله ” أنا تائب نادم، ولست متعالياً أو متكبراً، فلا حاجة بك لإذلالي أكثر من ذلك” .
والصوم في الكتاب المقدس هو الامتناع أيضا عن العلاقات الزوجية (يوئيل 2/16). ويتضمن أيضا استرحام الإله، فنجد هذا واضحاً في حالة داود عندما مرض ابنه الذي ولدته يتشبع عقب خطيئته معها. ”قد يَرحَمُني الرَّبُّ ويَحْيا الصَّبيّ”(2 صموئيل 12/16-233).
وقد يكون الصوم تعبيراً عن الاتضاع أمام الرب ، كما يقول الرب لإيليا النبي عن أحآب الملك عندما جعل المسح على جسده وصام: ”أرَأيتَ كَيفَ ذَلَّ أحآبُ أمامَي؟ فلأَنَّه قد ذَلَّ أمامَي، لا أَجلُبُ الشَّرَّ في أَيَّامِه”(ا ملوك 21/27-299).
وبكلمة الصوم هو الاعتراف بان الله هو السيد المطلق ومصدر حياة الإنسان قبل الخبز الذي يجود به الله علينا :” ليسَ بِالخُبزِ وَحدَه يَحيْا الإِنْسان بل بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِن فَمِ الله (منى 4:44) .
وأما كيفية الصوم فهو التبرؤ من الرياء والنفاق إلى صدق الإخلاص وخالص الصفاء للبحث عن وجه الله تعالى الذي يرى في الخفاء، وقد وبخ الرب يسوع صوم الرياء والتظاهر قائلا: وإِذا صُمتُم فلا تُعبِّسوا كالمُرائين”(متى 6/16-188).
وبكلمة الصوم فعل من أفعال الديانة الثلاثة (الصوم والصلاة والصدقة) الموجّهة نحو الآب السماوي الذي يرى في الخفية بخلاف الرغبة في أن يرانا الناس على ما جاء في كلام سيدنا يسوع المسيح: “أَمَّا أَنتَ، فإِذا صُمتَ، فادهُنْ رأسَكَ واغسِلْ وَجهَكَ، لِكَيْلا يَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّكَ صائم، بل لأَبيكَ الَّذي في الخُفْيَة، وأَبوكَ الَّذي يَرى في الخُفْيَةِ يُجازيك”(متى 6/17-18).
لماذا نصوم؟
إن الصوم شريعة إلهية اذ هي كما يقول القديس باسيليوس الكبير الوصية الأولى في الكتاب المقدس: ”وأَمَّا شَجَرَةُ مَعرِفَةِ الخَيرِ والشَّرّ فلا تَأكُلْ مِنها، فإنَّكَ يَومَ تأكُلُ مِنها تَموتُ مَوتًا”(تكوين 2: 17). ثبّت يسوع المسيح وصية الصوم بقوله: “سَتَأتي أَيَّامٌ فيها يُرفَعْ العَريسُ مِن بَيْنِهم، فَحينَئذٍ يَصومون”(متى 9/14). الصوم هو شكل من أشكال التوبة الذي يعبر عن الارتداد في علاقة الإنسان مع الذات والله والآخرين
1. الذات:
للصوم وجهان جسدي وروحي. فالوجه الجسدي للصوم هو يعرض الإنسان ذاته عن العواطف المنحرفة ويكبح الرذائل وسيما كبرياءه، ويُمكّنه من التسلط على غرائزه من حرية القلب ومغريات العالم كيتجدد روحاً ونفساً ويتعلق قلبه بالله. لذا فالصوم لا يقوم على الفم فحسب، وإنما العين والأذن والقدمين واليدين وكل أعضاء الجسم، ولا يقوم على التبدل الذي طرأ على طعامنا فقط بل على قلبنا. فمن يستطيع أن يسيطر على الأشياء المسموحة يستطيع أن يسيطر على الأشياء الممنوعة. فالصوم يتطلب جهد يقوم بقهر الإنسان لذاته، بغية التقرب من الله ومن البشر، إذ أن ”الرُّوحُ مُندَفع وأَمَّا الجَسدُ فضَعيف”(متى 26: 41).
أما الوجه الروحي للصوم فهو الامتناع عن الخطيئة، هو موقف القلب، القلب المتواضع التائب، الرحيم، الشفوق، الذي يسعى لتجديد علاقة مع الله. كما يقول يوئيل النبي ”مَزِّقوا قُلوَبَكم لا ثِيابَكم وأرجِعوا إِلى الرَّبِّ إِلهكم فإِنَّه حَنونٌ رَحيم طَويلُ الأَناة كَثيرُ الرَّحمَة ونادِمٌ على الشَّرّ”(يوئيل 2/13). الصوم هو عدم تفكير الإنسان بالشر في قلبه(زكريا 7/1-14)، هذا القلب المجروح بالخطيئة الميّال إلى الشر والأنانية(مز51/7). فهو زمن التوبة والعودة إلى الذات بالتقشّف، وفقاً لأول كملة تفوّه بها يسوع بعد صومه الأربعيني: ”فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشارة”(مرقس 1 :15). والتوبة باللفظة اليوناينة (متانويا) μετανοια تعني تغيير العقلية وباللفظة العبرية (شوف) تعني الرجوع، إنها ترمي إلى مراجعة الذات، إلى التجديد والتغيير والتطوير في الشعور والحكم والحياة، إلى هجر الإنسان العتيق ولبس الجديد، إلى الانتقال من الحياة القديمة والعودة إلى الشباب المتجدد. ويقول القديس يوحنا السلّمي في كتابه “السلم الى السماء” الصوم هو كبح رغبات الجسد وابتعاد عن الأفكار الشريرة وتحرر من التخيلات المذنبة، هو طهارة الصلاة، نور للنفس ويقظة العقل والقلب معا. فهو انتظار الرب، هو فتح القلب وتحرره من كل شيء يمكن أن يعرقل هبة فصح المسيح.
2. الله:
الصوم ليس هدفا بحد ذاته، وإنما وسيلة للوصول إلى الهدف، إلى الله، ”خُبزُ الحَياة”(يوحنا 5: 48). لذا لا يمكن أن ينفصل الصوم عن ذكر الرب المحرك الأساسي له. إننا بصومنا نتجه نحو الرب بانفتاح جذري الذي ننتظر منه كل شيء(دانيال 9/3). فمقومات الصوم الأربعيني هي الرجوع إلى الله وطلب رحمته بكل لجاجة من خلال أعمال التوبة والصلاة والصدقة، وبالطبع هناك أعمال روحية ذات صلة بهذا المثلث وهي الاهتداء، المصالحة الغفران، محبة القريب، والابتعاد عن الكراهية والحقد والانتقام…
فنحن بالصيام نعبّر أن الله هو مصدر الحياة والعيش وليس الخبز واللحم. ”مَكتوبٌ: لَيَس بِالخُبزِ وَحدَه يَحيا الإِنسان”... فالله هو مصدر وجودنا فعلينا أن نكون مستعدين أن نفرغ حياتنا لكي نمتلئ منه تعالى. لنصم جميعا متحدين بالرب ولنشبع أنفسنا منه وحده. إذ أن بالصوم ربنا يستجيب لنا ”فصُمْنا وطَلَبنا مِن إِلهِنا لِأَجلِ ذلك فاستَجابَنا(عزرا 8:23).
3. الآخرين:
الصوم هو زمن العودة إلى بعضنا البعض بأفعال المحبة والصدقة والرحمة وبالمصالحة. فالصدقة هو موقف القلب، القلب الرحيم، الشفوق، الذي يسعى لتجديد علاقة مع الآخرين. فلا حب بلا تضحية والتضحية بلا حب أمر خارجي. “الصيام وحده لا يوصلك إلى السماء بل يلزمك لتصعد إليها على أجنحة المحبة”.
بالصوم يشعر الإنسان بالجوع وبالتالي مع الجائع. ما نصوم عنه ليس من حقنا، وإنما هو من حق الفقير. ما تحرم نفسك منه، قدّمه إلى شخص آخر. الصوم المقبول عند الرب يقول اشعيا النبي “أَلَيسَ هو أَن تَكسِرَ للجائِعِ خُبزَكَ وأَن تُدخِلَ البائسينَ المَطْرودينَ بَيتَكَ وإذا رَأَيتَ العُرْيانَ أن تَكسُوَه وأَن لا تَتَوارى عن لَحمِكَ”؟(اشعيا 58/6) الم يقل المسيح: ”تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم: أَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فآويتُموني، وعُرياناً فَكسَوتُموني، ومَريضاً فعُدتُموني، وسَجيناً فجِئتُم إِلَيَّ… كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه“.(متى 25 : 34-40). الصوم كالطير لا يطير إلا بجناحين الصلاة والصدقة. هذا هو الصوم الذي يفضّله الربّ: الصوم الذي يظهر له أيادٍ مليئة بالحسنات وقلبًا ممتلئًا بحبّ الآخرين؛ صوم مليء بالطيبة.
فخير ما نختتم هذا التأمل هو ما قاله القديس يوحنا فم الذهب في إحدى عظاته عن الصوم: “اشحذ منجلك التي أتلفتها الشراهة، اشحذها بالصوم”… فليكن طعامنا في زمن الصوم الأربعيني الكلمة التي تخرج من فم الله، لأنه ”ليسَ بِالخُبزِ وَحدَه يَحيْا الإِنْسان بل بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِن فَمِ الله”(متى 4:4)، والعمل بمشيئته وهو القائل ”طَعامي أَن أَعمَلَ بِمَشيئَةِ الَّذي أَرسَلَني وأَن أُتِمَّ عَمَلَه“(يوحنا 4: 34)، وان نلبي دعوته ونقبل بتوبة وإيمان إلى تناول جسده وشرب دمه وهو القائل: ”لأَنَّ جَسَدي طَعامٌ حَقّ وَدمي شَرابٌ”(يوحنا 6 : 55).
صلاة
يا ربنا يسوع الحبيب، كما قضيت أربعين يوماً في البرية استعداداً لمهمتك التبشيرية، امنحنا أن تؤهلنا رحلة الصوم هذه للاحتفال بأسرار موتك وقيامتك المجيدة. وامنحنا يا ربّ أن تكون كلّ أفكارنا، أقوالنا، وأفعالنا موافقة لإرادتك لأنك إله حنون رحيم طويل الأناة كثير الرحمة لكلّ من يدعونك بقلب نادم متواضع. آمين.