نتأمَّل، في هذا الأحد الرابع من الصوم، بمثل الإبن الشاطر (لوقا 15، 11-32) الذي يرمز الى نداء التوبة الذي يشتعل في قلب الخاطئ، حين ينفصل عن بيت الآب ويذهب باحثًا عن فرحه بعيدًا عن مشروع البيت الواحد، الذي رسمه الآب السماوي، ألا وهو السعادة الحقيقيَّة ودخول الميراث الذي أعدَّه الله لأبنائه. ونقف عند ما يلي:
1-موقف الأخ الأكبر
يتبيّن من الكتاب المقدس أنَّ الأخ الأكبر، وهو بحسب التقليد اليهودي وارث أبيه، أنَّه لم يكن يعيش في هذا البيت الأبوي عيش المحبَّة بقدر ما كان يعيش عيش الناموس والشريعة. قال لأبيه، عندما انفعل لعودة أخيه وغضِبَ: "كم لي من السنين أتعبّد لك ولا أخالف لك وصيَّة". هذا النوع من العلاقة بالتعبُّد وعدم المخالفة لم يقترن بالمحبَّة، لذلك قال له أبوه: "كلُّ ما هو لي هو لك، فمن منعك من أخذ جديٍ لتتنعَّم به مع أصدقائك؟"
إنَّ الذي منع الإبن الأكبر من فعل هذا الأمر، هو عيشه كغريب في بيت أبيه ينتظر موته ليرثه، ولم يكن يصارحه بواقعه، على غرار ما فعل الإبن الأصغر. هذه الغربة تنقصها النعمة لتتحوّل إلى بنوّة، فالعلاقة بين هذا البكر وبين أبيه علاقة رضوخ وعبوديَّة بعيدة عن حريَّة أبناء الله، لذلك حلَّت العداوة بينه وبين أخيه محلّ الأخوّة. ألم يقل لأبيه: "إنَّ ابنك هذا" ولم يقل له إنَّ أخي هذا؟ سقطت الأخوّة بفعل الغيرة والحسد، لذلك أتى المسيح، وإحدى مهمَّاته، أن يجعلنا أخوة ببنوَّتنا لله.
خسر الابن البكر الأخوّة وخسر البنوّة ولم يعد يجرؤ على التنعّم بخروف واحد ممَّا يظنُّه لأبيه، بفعل القطيعة التي حصلت بينهما. الحوار بينهما مقطوع، بالتالي حلّ الترقُّب محلّ الحبّ وتطبيق الشريعة محلّ النعمة، الغيرة والحسد محلّ العطاء والتسامح. هذا الإبن البكر أشبه بالفرِّيسي الذي يطبّق الناموس ويقسّي قلبه أمام الرحمة. يدّعي أنَّه يحافظ على مال أبيه لكنَّه لا يحافظ عليه حبًّا، بل بخلاً وخوفًا. لم يصل هذا الولد إلى معرفة شعور أبيه نحوه واعتبره يميّز بينه وبين أخيه. لم يتمكَّن من اكتشاف الحبّ فخسر كلَّ ما يعطيه إيَّاه الشرع. عاش عبدًا أسيرًا لأنَّ الحبّ وحده يحرِّر أمَّا القانون فيأسر. إنَّه المثل الواقعي لكلام بولس الرسول عن الذي يعيش تحت النعمة والذي يعيش تحت الناموس.
مات المسيح لينقلنا من الناموس إلى النعمة وترك لنا حريَّة التصرُّف وأضاء لنا الطريق بالكتاب المقدس، فمن اكتشف منَّا هذا الطريق سار عليه ووصل، وإن سقط مرة في الخطيئة فطريق التوبة مفتوح. أمَّا من يعتقد نفسه وارثًا الملكوت وينتظر اليوم الذي يحصل عليه، أي يوم يموت أبوه، فما زال بعيدًا عن الطريق. حرم نفسه خيرات العالم ولم يحصل على خيرات العالم الآتي.
2-الغربة داخل البيت وخارجه
يعلِّمنا مَثَل الإبن الأكبر، في إنجيل اليوم، أنَّ الغربة لا تكون في هجر البيت وأخذ أموال الميراث إلى حيث تُبدّد في غير موضعها، لكنَّها يمكن أن تكون في طريقة عيش الإنسان، حتى لو كان داخل جدران المنزل. تكون الغربة في انقطاع العلاقات بين أفراد العائلة وهذا ما يعاني منه مجتمع اليوم تمامًا كما كان يعاني الإبن الأكبر في مَثَل الإبن الشاطر، فكم من أبناء العائلات في أيَّامنا هذه يدخلون المنزل ويخرجون منه كأنَّهم في فندق يجمع أناس غرباء عن بعضهم، فلا تواصل ولا دلائل محبَّة ولا حوار مفتوح ولا هموم مشتركة، بل قطيعة شبه دائمة، فلا يربط بين أولاد البيت الواحد إلاَّ الإسم أو اعتقاد الناس بأنَّ أبناء البيت هم عائلة واحدة.
هذه الغربة هي ما أسمِّيه التغرُّب أي العزلة القريبة من المرض، فهي ليست خطيئة بقدر خطيئة الإبن الشاطر، لكنَّها تشكِّل الخطر نفسه على حسن العلاقات بين الناس، بل قد تكون سببًا للقتال والحروب، بينما خطيئة التبذير والانقطاع عن البيت الأبوي تكون سببًا للفقر المادّي والروحي وحجمها بحجم نكران نِعَم الله علينا.
3-موقف الإبن الأصغر
انطلق الإبن الأصغر من حريَّة الإنسان ليس في الأمور الأدبيَّة فحسب بل في الأمور الماديَّة، فطلب نصيبه من الميراث وترك البيت الأبوي، إنَّه وضعُ الانسان الذي أُعطي نزعة التحرُّر فَشَقَّ طريقه في ميادين الحياة مستعينًا بعقله، الذي وهبه الله إيَّاه وبالشرائع السماويَّة التي تساعد هذا العقل على حسن تنظيم الأمور، للوصول بالمسيرة الشخصيَّة إلى غايتها المرجوَّة في هذا العالم، وإلى الغاية القصوى في العالم الآتي. غير أنَّ هذا الإبن الشاطر غرق في الخطيئة فتاه عن مساره الصحيح وبات عقله وقلبه وضميره في ظلمة حتَّمت عليه البعد عمَّا رسم له الله في تدبيره الخلاصي، وبات عقله عاجزًا عن حسن تنظيم الأمور، فضلّ عن الطريق القويم وفسد طبعه الأوَّل ولم يعد يعمل بحسب القانون الطبيعي الذي وضعه الله فيه، فخسر كرامته واشتهى أن يملأ بطنه من طعام الخنازير. إنَّه يمثِّل الإنسان الضال الذي لم يحسن استعمال هبات الله ولم يَسْتنر بما أعطاه الوحي الإلهي والكتاب المقدَّس، فضلّ وأصبح بحكم المائت.
لكنَّ الله وضع في الإنسان قوَّة لا يغلبها الموت ولا تغلبها الخطيئة، إنَّها قوَّة التوبة والعودة عن الضلال، تجعله يستفيق ويعود إلى رشده ويرى موقعه الطبيعي بوضوح. لذلك عرف الابن الشاطر وضعه حقّ المعرفة، فاستفاق وعرف أنَّ محلَّه الذي يعيد إليه كرامته كإنسان، هو السير بحسب ما وُضِع في العقل من قوَّة حسن التدبير وفي الضمير من قدرة على التنبُّه وأخيرًا الاستفادة من معطيات الوحي، فقال: أقوم وأمضي إلى أبي حيث الأجير له كرامته، فكم بالحري الإبن الوارث.
4-عودة الإبن الأصغر
لا شكَّ أنَّ تصرّف الإبن الأصغر هو تصرّف غير مسؤول وغير رصين وطائش، لذلك خسر كلَّ ما أعطاه إيَّاه أبوه. هو المثل الأوَّل لمن وضع جواهره أمام الخنازير، والمثل الأوَّل لمن خسر الوزنات التي طُلِبَ إليه أن يكون أمينًا عليها، وهو الصورة التي تتوافق مع كلِّ واحد منَّا عندما يضيّع مواهب أعطانا إيَّاها الله.
لكنَّ هذا الولد استفاق فوعى ذاته وقال في نفسه: أنا عريان تمامًا كما فعل آدم حين اكتشف ذاته خاطئًا، أمَّا الفرق بينه وبين آدم فهو أنَّ هذا الأخير خاف من الله وهرب واختبأ، بينما لجأ الإبن الأصغر إلى أبيه وكلُّه إيمان بأنَّه سيجد في قلبه الغفران والمحبَّة وقال: "أقوم وأمضي إلى بيت أبي". إنَّها التوبة الحقيقيَّة.
5-التوبة
يبدو أنَّ التوبة هي قبل كلِّ شيء صحوة ضمير وعودة إلى الذات، لمعرفة الفرق بين حال النعمة وحال الخطيئة، بين أن يكون الإنسان عبدًا أو يكون حرًّا، بين أن يكون أجيرًا أو إبنًا. في التوبة قرار وعزم وتصميم وتنفيذ. فالقرار يختصر بـ"أقوم وأمضي إلى بيت أبي" والعزم مباشرة الطريق والتصميم يظهر في عدم التردُّد والتنفيذ للوصول أمام الباب.
6- الأب الحاضر
من السهل أن نلاحظ أنَّ الإبن الشاطر لم يقل أمام أبيه كلمة ممَّا خطَّط له، لأنَّ الوالد المحبَّ الغفور، ما إن رأى ابنه، حتى عانقه ناسيًا كلَّ سيِّئاته، دلالة على أنَّ الله لا يرضى بأن نكون عبيدًا حتى عنده، أرادنا أبناء وهكذا سنبقى لأنَّه أراد هو هذا. لقد أعاد الأبُ الاعتبار الكامل لبنوّة الإبن، بالخاتم والحذاء والعباءة والعجل المسمَّن، وهذه ترمز إلى السلطة والحريَّة والميراث.