من بين اللاعبين الأساسيين في الحرب السورية، برز الصراع الإيراني السعودي بشكل جليّ، دوناً عن اللاعبين الآخرين. يدخل العام السابع من عمر الأزمة في سوريا بمتغيرات جيوستراتيجية على مستوى الجبهات السورية والإقليم ككل، فصراع كل من الرياض وطهران لم يقتصر على جبهة سوريا، بل هو ممتدّ إلى جبهات أخرى في أكثر من دولة في الإقليم.
منذ ما قبل الأزمة في سوريا، وخلال فترة تحسن العلاقات السعودية السورية أواخر عام 2009 بعد تأزمها عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كان واضحاً السعي السعودي للتأثير على خيارات الحكومة السورية فيما يخص العلاقة مع طهران، مع ما تخلله ذلك من تقديم مغريات لدمشق لافتكاكها عن المحور الذي أخذ بالتعزز في المنطقة، عقب انتصار المقاومة في العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز عام 2006.
هذا المطلب السعودي هو في الأصل أميركي، كان وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول، قد طلبه من الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق بعد غزو العراق عام 2003. صحيح أن تحالف الرئيس الأسد مع إيران لطالما أزعج السعودية ودفعها لتصعيد موقفها تجاه دمشق، وصل بعد اندلاع الأزمة في سوريا عام 2011 إلى تصدّر الرياض سعي تحالفٍ واسعٍ ضمّ دولاً عديدة لإسقاط النظام السوري عسكرياً، عبر دعم الجماعات المسلحة بالمال والسلاح وتسهيل دخول المقاتلين عبر دول الجوار السوري.
حتى خلال السنوات الست الماضية من عمر الأزمة في سوريا، لم تتخلَّ الرياض عن محاولاتها إقناع الرئيس الأسد في الابتعاد عن إيران مقابل مساعدته في إنهاء الأزمة وإعادة المناطق التي فقد السيطرة عليها خلال الحرب، وهذا ما أكده الأسد في أكثر من مناسبة، كان آخرها في مقابلة مع صحيفة صحيفة "كومسومولسكايا برافدا" الروسية في تشرين الأول الماضي. من هنا يمكن القول إن انخراط الرياض في قلب الحرب في سوريا خلال الأعوام الستة المنصرمة، كان في أغلبه جزءاً من الحرب السعودية غير المباشرة على إيران، ضمن سلسلة حروب بالوكالة خاضتها الرياض ضد النفوذ الإيراني في بعض دول المنطقة.
في إحدى وثائق الخارجية السعودية التي نشرها موقع "ويكيليكس" عام 20155، يرد محضر أحد اجتماعات "لجنة تحضيرية منبثقة عن لجنة عليا لدراسة المواضيع ذات العلاقة بالتهديدات والتحركات الإيرانية المناوئة" حصل في شباط عام 2012، يوصّف فيه أعضاء اللجنة اشتراكهم في الحرب على الأرض السورية بـ "المعركة الحالية مع النظام الإيراني على الساحة الداخلية في سوريا"، ويذهب القائمون على هذه اللجنة إلى حدّ القول إن هذه المعركة "لا يمكن بأي حال من الأحوال السماح بخسارتها لما سيترتب على ذلك من تبعات وأخطار قد تهدد الأمن الوطني للمملكة ومصالحها الاستراتيجية بشكل مباشر". ضمن هذا التوجه السعودي، عملت الرياض على تحقيق هدف إسقاط النظام في دمشق عبر سياسة الهجوم على المركز.
تركّزت جهود الاستخبارات السعودية بداية عام 2012، على خلق تنظيمات عسكرية في محيط العاصمة دمشق في الغوطة الشرقية وفي درعا وريفها في الجنوب السوري. عوّلت الرياض على زهران علوش وكيلها لتحقيق أهدافها بالوصول الى العاصمة، فاستهدف منطقة المطار ومحيطه في سعيه لإيقاف الدعم الإيراني للنظام، بالتزامن مع استهداف المراقد والمزارات الشيعية واستهداف مواكب الزوار. برز عام 2012 اسما رئيس الاستخبارات السعودي الأسبق بندر بن سلطان، وأخوه سلمان (نائب وزير الدفاع) في هندسة الدور السعودي في سوريا، ووفق ما نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" بداية عام 2016، نقلاً عن مصادر في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، فقد عمل بندر على تأمين شحنات السلاح من دول شرقي أوروبا وإرسال القسم الأكبر منها إلى الأردن عبر مطار تبوك السعودي وصولاً إلى الجبهة الجنوبية السورية، الجبهة التي انشغلت مراكز البحث الأميركية والإسرائيلية على وجه الخصوص في دراستها والتحذير من تعاظم حضور الحرس الثوري الإيراني فيها.
حضرت السعودية أيضاً في جبهات أخرى في الشمال السوري والوسط عبر فصائل مسلحة كانت تغذيها الرياض عبر الحدود التركية، لكن حجم الدور السعودي هناك بقي محدوداً نوعاً ما مقارنة بالدور التركي، رغم الحرص السعودي الدائم على الحضور في الجبهات التي كان الإيرانيون حاضرين فيها.
اليوم وبعد انقضاء العام السادس من عمر الحرب في سوريا، خرجت السعودية بخفّي حنين بعد التكلفة العالية العبثية التي دفعتها في سبيل إسقاط النظام وتقويض الحضور الإيراني العسكري والسياسي الداعم لدمشق، مضافاً إلى التدخل الروسي الذي أحبط كثيراً من الخطط السعودية ــ التركية المشتركة. خسرت الرياض تقريباً كل أوراق قوتها في سوريا وعادت في العام الأخير لمربع الاعتماد على الدور الأميركي للسعي للعودة إلى المشهد السوري. خفَتَ مؤخراً صوت وزير خارجيتها عادل الجبير، في تصريحات وجوب رحيل الأسد، سياسياً أو عسكرياً.
على المستوى الداخلي السعودي، نتج عن الإخفاق في حصد النتائج ــ التي تمنّى تحقيقها الملك السابق عبدالله بن عبد العزيز ــ إقصاء بندر بن سلطان كلياً من المشهد وكذلك عزل أخيه سلمان من منصبه، وتسلم محمد بن نايف الملف السوري، الأمر الذي أدّى في نهاية المطاف الى الإطاحة بمستقبل أبناء سلطان السياسي في ترقي سلّم السلطة والعرش، وتوريث تركة من الهزائم لمحمد بن نايف شكّلت عبئاً عليه في حظوظه بتتويجه ملكاً بعد سلمان، مع استمرار نجل الملك في اختطاف الأضواء منه. في المقابل، يستمر المشرف على الدور الإيراني في سوريا اللواء قاسم سليماني، في متابعة مجريات المعارك في الجبهات ويتنقل بين جبهة وأخرى في الإقليم، حاصداً انتصارات تتخطى الحجم السعودي لتقلق إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة.