... هكذا إذًا غدا قانون الانتخاب أحجية القرن الحادي والعشرين. أحجية تعجّ بالشيفرات الجدلية التي قد ينال من يجيد تفكيكها تشريفًا بلقب "بطل العهد الجديد". لا عودة الى قانون الستين، لا فراغ في السلطة التشريعة ولا قانون جديدًا يتضمّن النسبية... "وحلّوها إذا فيكن تحلّوها".
من قصر بعبدا "شنق" الوزير نهاد المشنوق قانون الستين وخرج أشبه بكتلة من التفاؤل إزاء الانتخاب على أساس قانون جديد غير "الستين". أصبح أمرًا واقعًا أن لا انتخابات من دون قانون جديد، هذا ليس تحليلًا أو معلومات خاصة بل كلامٌ ورد على لسان المشنوق بعدما كان الحديث الطاغي على شفتيه يصبّ في خانة التلويح بعدم قدرة وزارته على إجراء الانتخابات سوى على أساس القانون الساري.
طمأنة مزدوجة
من قصر بعبدا طمأنة الى أن لا عودة الى الوراء، ومن عين التينة طمأنةٌ الى أن لا مجال للفراغ في السلطة التشريعية. واضحةً باتت مواقف الجميع من قانون الانتخاب. فالرئيس العماد ميشال عون خائفٌ على وعدٍ قطعه وعهدٍ بلغه، لذا يحرص على الإتيان بجديد يتماهى مع الخطوط العريضة لعهده الرئاسي الجديد، وذلك لا يمكن أن يتمّ إلا من خلال قانون جديد يطيح "الستين" الجائر في حقّ كثيرين وعلى رأسهم المكوّن المسيحي. أما الرئيس نبيه بري فخائفٌ على مجلسه بعد تلويح رئيس الجمهورية بورقة الفراغ في غير مناسبة، لذا كان تشديدٌ على أن لا "فراغ تحت أي ظرف من الظروف". كلام المشنوق ذاك بدا مستندًا الى وعدٍ من بري بالعمل جاهدًا على الخروج بقانون انتخابي جديد مستوحًى على ما علمت "البلد" من كلّ الصيغ المطروحة سابقًا بحيث تراعي هواجس المختارة أولًا التي لا تنفكّ تظهّر أي بحثٍ عن قانون جديد على أنه ضربٌ لوجودها وحجم تمثيلها. في هذا الوقت يُبدي الحريري ليونةً كبرى إزاء أي قانون من شأنه أن يحول دون اصطدام العهد بأولى المطبّات الكفيلة بالقضاء على صورته، خصوصًا أن كثيرين ينظرون الى موضوع إقرار السلسلة على أنه فشلٌ ذريع للعهد بفرض ضرائب على الناس، وليس إنجازًا بإحقاق فئة كبيرة من الموظفين.
فرض كلمته...
مرتاحًا يبدو الحريري لسير الأمور الانتخابية بخلاف ما بدا عليه وجهُه بعد الاعتداء أو شبه الاعتداء عليه بالعصي في ساحة رياض الصلح. في الأمس كانت زيارة جوهرية الى القصر خلص الحريري في أعقابها الى مباركة أيّ قانون يحمل النسبية الكاملة أو الاختلاط عنوانًا. يتّضح من كلام الحريري أن رئيس الجمهورية تمكّن من فرض كلمته في هذا المجال مع حلفائه من حزب الله مرورًا بالقوات وصولاً الى حليف الحليف الرئيس نبيه بري الحريص هو الآخر على إجراء الانتخابات من جهةٍ، وعدم استثارة الشارع بالعودة الى قانون الستين من جهةٍ أخرى. وحدها هواجس جنبلاط تبدو منه وفيه كأني بها أشبه ببرنامج Built In. فلا هذا القانون يرضيه ولا ذاك يقنعه، وفيما اقترب الجميع من نعي مشروع الوزير جبران باسيل المختلط، تبدأ رحلة بحثٍ جديدة عن قانون قد يكون آخر الصيغ المطروحة قبل أن يصبح الوقت داهمًا. ولعلّ الرسالة الأقوى التي وجّهها الرئيس عون ومعه الحريري الى كلّ عابثٍ ومضيّع للوقت في سبيل الاستسلام والعودة الى "الستين" تحت الضغوط الزمنية، مفادُها أن "لا مساومة ولا مهادنة في هذا الملفّ، وأن التغيير في قانون الانتخاب آتٍ لا محال وواجبٌ لا محال وركنٌ من أركان العهد الجديد الذي لا يستوي من دون إصلاح". وفي هذا المجال سيتدخّل الرئيس عون والرئيس الحريري مباشرةً وقد تكون لهما مبادرة رغم أن ليس الأمر من شأنهما، على طريق تسريع استيلاد قانون أغلب الظنّ سيكون مختلطًا إذ إن النسبية الكاملة تبدو أشبه بصفعةٍ مدمّرة لجنبلاط بنوعٍ خاص، وهذه المرة لن يُسمَح لبكّ المختارة بأن يعترض ليعترض ويعرقل ليعرقل، ولكن في الوقت نفسه ستُراعى هواجسه بصيغةٍ تنصفه كما تنصف منافسيه من جهة، ومسيحيي الجبل من جهةٍ أخرى.
دحض التفاؤل...
هذه الأجواء التفاؤلية، يدحضها بعض المؤمنين من السياسيين كما من المحللين والمواطنين بأن كلّ ما يحصل لن يؤدي الى أيّ ثمار، وبأن الوقت الداهم والضغوط الدولية ستكون خير دافعٍ في اتجاه السير في القانون الساري على أن يكون إجراء الانتخابات أكثر هوانًا من تأجيلها أو من تمديد ثالث (لا سمح الله). وعليه، لا حاجة الى مزيدٍ من المناورات وتضييع الوقت طالما أن ليست هناك رؤية موحّدة إزاء قانون موحّد يشعر الناس من خلاله بتغيير ما، بيد أن ذلك لن يحصل حرصًا من كلّ حزبٍ على الإبقاء على قديمه وعدم إفساح المجال أمام الدم الجديد لإثبات نفسه.
ضيق الوقت...
في المحصّلة، يستشعر رئيس الجمهورية بضيق الوقت، ومثله رئيس الحكومة الواقع بين "شاقوفين"، لذا تعمل "أنتينات" بعبدا في كلّ الاتجاهات، وقد يستغلّ بعضهم غياب الوزير باسيل في جولاتٍ اغترابية حتى نهاية الشهر ليرمي الكرة في ملعبَي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، فيما يبقى جنبلاط العقدة الأكثر تعقيدًا لا سيما أنه يصرّ على تفصيل عباءة انتخابية تناسب جيده كتلك التي ستناسب ابنه "المُبايَع" ذات يوم!